ومال في هذا إلى رأي الحكماء وقال بمذهب البراهمة في تجنّب إراقة الدماء. وكان قد طلع عليه وهو في الرابعة من عمره جدري وذهب ببصره، وأفقده نور نظره، فلمّا كبر سمّى نفسه [رهين المحبسين] يعني بهما الدنيا والعمى. وكان أبو العلاء من بيت أطلع جماعة من الفضلاء «١» ، وأقطع بنيه العلاء بأبي العلاء. وكان مطلعا على العلوم لا يخلو في علم من الأخذ بطرف، متبحّرا في اللغة، متّسع النطاق في العربية، جامع الشعوب للطرق الأدبية. ندرة في العلم، وشذرة في بني آدم. ما ولدت مثله الليالي ولا أوجدت شبيهه المعالي. وله من الكتب المصنّفة والدواوين المدّونة ما اشتهر ذكره وظهر من ذلك البحر درّه «٢» . وهو عدد لا تعقد جمله ولا يحصى ما أحرزه عمله. عقمت القرائح بأمثالها، وعدمت الجوارح أن تضمّ على مثالها من كلم غريبة المعاني أنفس من العقود، وحكم قريبة الوصول تشقّ القلوب قبل الجلود، وله من بدائع النظم والنثر قمراها ومن روائع العلم والعمل سمراها ومن يانع ما تجني المسامع والأبصار ثمراها، هذا على انقطاع حتى/ ٣١٥/عن نفسه وامتناع حتى عن أنسه ونفار حتى من ظلّه، وحذار حتى ممّا يجالسه من فضله مع ما مني به من فقد حاسّة بصره، ورمي به من عدم حامّة معشره وخلّوه ممّن يماثله في بلده ويراسله فيما يأخذ في جدده واطّراحه للمذاكرة وانتزاحه عن المحاضرة، واشتغاله أكثر الأوقات بالفكر في معاده والذّكر لما يحتاج أن يستصحبه من زاده. والتأهب للسفر والتوثب مستوقرا ليكون في أول النّفر إلّا أنّه كان مع هذا مذهبه أن لا يفارق إلّا ونفسه كاملة بالمعارف عاملة على أن لا يفوتها شيء من العوارف، لترقى روحه إلى عالمها وتتلقى بروح القبول في معالمها، ولا تخرج إلّا وهي بالعلوم مرتسمة وللقلوب مبتسمة، فهذا الذي كان يثير عزمه الساكن وعلمه إلى أشرف الأماكن. وكان ممّن أوتي ذكاء تتوقّد زجاجته