نفسه فتأدب، ثم ما تأدب، وصفا منهله ثم تطحلب، لأنه أشغله بإفشاء المعايب، وإنشاء المثالب. وكتب أول حاله للصاحب عز الدين بن وداعة، ثم كان ينقل في الوظائف التي بها ينتفع، إلا أنه لا يرتفع. ثم استكتب بالبيرة، ثم بديوان الإنشاء بدمشق. بعد عطلة ضاق بها عطنا، وضاع فيها فهمه فحار لا يهتدي، ولا يأنس فطنا، فما صدر عنه ما يثبت، ولا ظهر ما يكتب له إلا ما يكبت. فما عدم من عزاء القديم امتهانا، ولا خلّد له بالديوان إلا أنه خلد فيه مهانا.
وكان ممن لا يؤخر في رجال الحديث، والقراءة علو رواية، وعلوم دراية، وتعاليق فيها بخطه، وكان غاية. وقرأت عليه بعض كتب الأدب، أول ما عقّت عني التمائم، ولبثت على رأسي العمائم. وكان سريع الإفهام سرى القدح في زناد الأفهام. وله تذكرة جمعها عدة أجزاء، وديوان شعر، أول ما بدأه بأعراض أصحابه الأعزاء، معما فيهما من محاسن أخر، ومعادن درر. ووقفهما ببعض الجهات، وملأهما حراما وحلالا، وبينهما شبهات. فانتدب قاضي القضاة نجم الدين، أبو العباس، أحمد بن صصري التغلبي، فكشط ما ضمهما من القبائح وتطهيرهما، وقد غمس فيهما يده في دماء تلك الذبائح، وها ديوانه الآن منقّى من ذلك الغلث، مبقى ما سوى ذلك العبث. أجل، إلا ما غمض على بديهة المعارف، وخفى بهرجه على بصيرة الصيارف. وكنت قد استعرت نسخة منه، فلما انقضت إفادتها، وطلب مني إعادتها، كتبت معها:[الطويل]
بعثت بديوان الوداعيّ مسرعا ... إليك وفي أثنائه الذمّ والمدح