المأمون، ولاب على موارد المحنة، ولاث مفارق من خالفه بعصائبه المهينة، واشتد في التحرج بهذا المذهب، والتولج في ظلمة هذا الغيهب، وكان كريما جوادا وله اعتلاء في الأدب واعتناء به، ينسل إليه أهله من كل حدب، وكان له صنعة في الموسيقى، وروي له فيها أعمال تحرك الصخور، وتحرض سامعها على اغتنام أيام السرور، وكان مع هذا مهيبا موقرا في الصدور، موقى بمهابة أمنع من النسور، وكانت له على الأتراك حرمة خطرت على خواطرهم الخطرات، وقصرت لواحظهم تحت سجف العبرات، وكان إذ اذكر لهم تريع بهم أوهامهم وترتعد [ص ١٤٦] مفاصلهم فما تقلهم أقدامهم.
وحكى ابن أبي داود «١» عنه كلاما معناه: حضرته وهو قاعد يتنفش، وبيد بعض الغلمان مرآة كأنها درهم في كف مرتعش والغلام يتجلل فرقا، ويتكلل جبينه عرقا، كأنه في عقابيل حمّى، أو في وبيل حمّى سقي به سما، قد نكس إلى الأرض كأنه راعف، أو كأنه ينظر موضع مصرعه وهو واقف، وحكي أنه مات وأكلت السنور عينه، وغلمانه صفوف وقوف على بعد منه، فما منهم من تجاسر أن يتقدم إليه ويكشف خبره، ولا يرفع إليه طرفه ويتحقق نظره.
وعن أبي مالك جرير بن أحمد بن أبي دواد قال: قال الواثق يوما لأبي تضجرا بكثرة حوائجه، يا أحمد، قد اختلت بيوت الأموال بطلباتك للائذين بك، والمتوسلين إليك، فقال: يا أمير المؤمنين، نتائج شكرها متصلة بك، وذخائر أجرها مكتوبة لك، وما لي من ذلك إلا عشق إيصال الألسن بحلو المدح فيك، قال: يا أبا عبد الله، والله لا يمنعك ما يزيد في عشقك، ويقوي من