العزيز، وسلك مسلكه الحريز، فما تكثر من الدنيا ولا تكبر بالعليا، وأقبلت عليه الأيام فما اغتر بخداعها، ولا اعتز بمتاعها، ولا أصباه بديع رونقها، ولا سباه صنيع تأنقها، وأخرج ما اكتنز الخلفاء من آنية الذهب والفضة وضربها نقودا، وفرقها حقوقا لا جودا، وأمر بالعدل، ورجع إليه قضاياه، وطبع عليه سجاياه، فلم يوافق صلاحه زمانه الفاسد، ولا نفّق إصلاحه سوقه الكاسد [ص ١٥٣] ، ولم يكن من أرباب الدولة إلا منهمك في فساد، ومنسلك في سلك لا يطمئن به الوساد، فكرهوا أيامه، وودوا لو انقضت وأنها لا تكون قد أقبلت حتى مضت، فعابوه بما فعل مما يمدح، وقالوا إنه لا يستصلح، وقد حكى عنه بعض العلماء قال:
حضرت المهتدي يوما من رمضان بعد العصر، وطال مجلسي عنده، فلما أردت القيام قال: قد حانت المغرب وآن فطور الصيام، فهل لك في أن تفطر عندي الليلة، فما وسعني إلا أن أجبت قوله، فلما أذّن المؤذن أجابه، ثم دعا بكوز ماء فشرب منه وسقاني، ثم قمنا إلى الصلاة فأديناها وأعقبناها بركعتي السنة، وذيلناها، ثم قال: يا جارية العشاء، فجاءت بسكرجتين «١» في إحداهما جريش ملح، وفي الأخرى زيت وخل، ومعهما رغيفان، فتقدم وقال: كل ثم قال:
باسم الله، ثم أكل وأكلت، وأنا أظنه شيئا قدمه قبل طعامه، فرفعت يدي، فقال لي: ألست كنت صائما، فقلت: نعم، فقال: أولست تصبح غدا صائما، فقلت: بلى، قال: فما هذا الأكل، فقلت: يا أمير المؤمنين، أوهذا هو طعامك، فقال: نعم، فإن الحلال المحض لا يحتمل أكثر من هذا، فدعوت له وأكلت، ثم انصرفت، وقد استحوذ على قلبي استحواذا، ثم أذنت العشاء الآخرة، فقمنا إلى الصلاة، فصلينا المكتوبة، وما معها، ثم قمنا بالتراويح، فكملناها أجمعها، ثم أخذت مضجعي، ثم بقيت أنتبه الفينة بعد الفينة،