للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وخلائف سلف كريم تتألم، وكان المقتدر عقله عقل أمثاله من الصغار لا ينتخي لملكه ولا يغار، مشغولا وراء حجبه، مشغوفا بلعبه، يتشبه في ملكه العقيم بالسوقة، ويتخذ له من جوارية معشوقة، ويقف تحت طاقتها يغمزها، ويترقب لها غفلات رقباء ينتهزها، وربما وقف اليوم الكامل وهي لا تجيبه، ورأى جارية فاختفى كأنه وافى إليه رقيبه، فمرة تصله، ومرة تهجره، وآونة تتعرف به، وآونة تنكره، وتارة تتعذر بزوجها، وتارة يتستر بأوجها، كل هذا شىء افتعله، وظنه لذة له ففعله، وكان ربما ركب حمارا وأردفها وراءه، ومر بسوق عمله في قصره، وأسكنه الجواري وأوطنه كواعب كالدراري، وجعل عندهن أنواع الطعام، ومنهن الخباز والطباخ واللحام [ص ١٦١] والخمار، وعنده الخمارة والمدام، فيقف على الحانوت ويشتري قدر ما يحتاجه من القوت، وكذلك ما يريد من الخمر، فإذا اكتفى حمل الكل في الخرج ومر، ثم ينطلق إلى مكان اتخذه في القصر شبيها بالقرية، ونزل به، وقضى معها يومه كله في أكله وشربه، ثم إما تجئ جارية على أنها عاشق لتلك الجارية الأخرى التي يتعشقها، يريد ما أراده منها، فيقوم يدرأ عنها، فتارة غلب، وتارة يغلب، وتارة تجىء جارية على أنها صاحب الشرطة، فيأخذهما ويذهب، ثم يأمر بالمقتدر بأن يطاف به في شوارع بغداد، فيطاف به في رحاب القصر، وينادى عليه: هذا جزاء من يتظاهر بالمحرمات، في مثل هذا العصر. وكان المقتدر منقطعا إلى أمثال هذا اللعب، ما اجتهد في سواه ولا رغب، ولهذا اختلت حاله مرات، وخلع ثم عاد كرات، لكنه مع هذا اللهو المفرط، واللعب وهو ما بلغه منبسط، ولا لحقه بعده منتهك، ولا سبقه إليه قبله سوقة ولا ملك، كان سعيدا محظوظا، شديدا أدرك من المرام حظوظا، وكان واسع النفقات، شائع الصدقات، ودانت له الآفاق شرقها وغربها، وبعدها وقربها، ولم يبق شىء مما كان في ملك الخلفاء الأول إلا مذعنا لأمره، ممعنا للتأهب لنصره، لا تحمي أطرافها إلا بعسكره، ولا تشمخ أسرّة ملوكها إلا بالخضوع

<<  <  ج: ص:  >  >>