شفين وهيهات، بينهما عرض الأرض، ومر البر، ونحر البحر، وملوك العبيديين بمصر بين بحريهما حاجز، وحائل بينهما لا يزيله عاجز، وإنما كان يعلل نفسه بالمنى، ويؤمل مدد النصر من هنا ومن هنا، فلم تنقطع بينهما المكاتبات، ولا حجبت أرواح الابتداآت والمجاوبات، ولا يرغد عيشنا بعلالتها، ويتملأ ريا ببلالتها، وربما كتب إلى ملوك ما وراء النهر، فعومل الرسول بالرد والنهر، وقيل له: لو قمتم بأمور الدين، وتركتم أباطيل السفه، وأقاويل الشبه، وأخذتم بما تبين لا بما اشتبه، وبما تحتم من الحق أو الخير لما تسلطت عليكم حكام الجائرين، ولا سطت بكم أيدي الحكام المجاورين، لكنكم فعلتم وفعلتم، وعلمتم وحهلتم، وعدّد عليهم قبائح ما ارتكبوا وفضائح ما احتقبوا، وكان المقتدي ممن يرتاح للندى، ويلتاح نجم هدى، وله هدي مأثور، يفاوح أرج المنشور، كأنه بالعنبر نسخ، وبرشاش ماء الورد نفخ، يؤثر الخير ولا يلتقي عليه مساعدا، ويؤثر الجود ولا يخلف عليه مواعدا، ويقارب حال السلف ولا يكون مباعدا، ويقارن هام الغمام ولا يقدم راعدا، وكان أبوه أبو العباس محمد الذخيرة قد مات، كما ذكرنا في زمان أبيه القائم، وتلقى من رضوان ربه تحية القادم، فلم يكن للقائم دأب إلا تأديب المقتدي، وقراءة سير الخلفاء الصالحين عليه، كعمر بن عبد العزيز، والمهتدي، وإعلامه بأحوال الدول، مسيئها ومحسنها، وأمره بتصفحها، والأخذ بأحسنها، حتى كان لو تمكن ناذره، وخاتمة لأول الغيث أو بادره، وقد ذكر ابن الأثير «١» أنه مات فجأة، قال: كان قد أحضر عنده تقليد السلطان بركياروق ليعلم فيه، فقرأه وتدبره وعلم [بما] فيه، ثم قدم إليه طعام، فأكل منه وغسل يديه، وعنده قهرمانته شمس النهار، فقال لها: ما لهؤلاء الأشخاص [ص ١٧٣] الذين قد دخلوا عليّ بغير إذن؟ قالت: فالتفت فلم أر شيئا، ورأيته