كان هذا موضع القول لأطلت وأطنبت وأمللت، إلا أن الوليد كان يعاب لبه بالفراغ، ورأسه بخفة الدماغ، كان أخف من خطرة نسيم، وأطيش من نار في هشيم، وكان يتلجلج لحنا، ويتحرج ولا يقول كلاما لا معنى لغالبه، مثل كلام النائم أو السكران، هي ألفاظ إلا أنه لا يفهمها الإنسان، فكان خفيفا لحّانا، لا يقيم لسانه خطاء، ولا عقله امتحانا، وكان على هوجه الشديد، وعوجه عن النهج السديد، شديد المهابة مجيد الإصابة، سعادة أخدمته بها الأقدار، وقدمته إليها أضعاف المقدار، وكان معظما لجانب الحجّاج، حتى إنه كان أمكن عنده بما كان عند أبيه عقدة، وأقرب مكانا ومودة، وإمكانا في رخاء وشدة، وكان الوليد إذا ذكره قال: هو الذي مهّد لمنابرنا، وسهّد جفونه لنوم أكابرنا، يعدد صنعه السالف، وردعه المخالف، ويرى أنه من أكرم زلفه، وأعظم ما جاءه الدهر به من تحفه، وكذلك كان الحجاج له صدق ولاء لا يكذب، وإجماع لا يشذب، حتى إنه لما احتضر كتب إليه كتابا أودعه، ما فارقه به وودعه، زعم فيه أن رضى الوليد سبب مفازه، وموجب دخوله إلى الجنة وجوازه، وقال فيه:[ص ٢٦٩]
[الطويل]
إذا لقيت الله عني راضيا ... فإنّ سرور النفس فيما هنالك
ولما رجع الوليد من جنازة أبيه، صعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه، ثم قال:«لم أر مثلها مصيبة، ولم أر مثله ثوابا، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون، لعظم المصيبة، والحمد لله على حسن العطية، إني قد كفيت ما كانت الخلفاء قبل تتكلم به، فمن كان في قلبه خبّ «١» فليمت بدائه، ومن مال أدبه أملنا رأسه» .
وولى عمر بن عبد العزيز المدينة، وأمره أن يبني مسجدها ويجعله مائتي