الأرض وطنها. ومنذ قدمها خوطب بالإمام؛ ومع هذا ممّا تأبّى عن لقاء الأعلام. ولم يكن يقصر بجناح إلى تمام يقع في الأوهام؛ وإنما أراد الزيادة بما يحصل باقتداح الأفهام. ومنذ ذاك الطلبة إلى إفادته ومن حياض آفاته تكرع؛ حتى انتشر مددهم في البلاد انتشار الصباح، ونظر أهل الشغف بالعلم من كتبه ما ينظر في الوجوه الصباح. وهو الآن نفع الله به هودج اللآلئ الذاهبين وكنز الطالبين. كل الطلبة من عشبه درجوا ومن نبت دواسته خرجوا، وبشذاه أرّجوا، وبسناه سقوا عطاء الإفهام وفرجوا، وبشهاب توفيقه أدلجوا، ومن أثواب تصنيفه إلى العلم ولجوا. وأنا ممن قرأ عليه، وتشرفت لّما مثلت لديه.
وأمّا تصانيفه فسارت أوقار الإبل، وأما تفريقه للأدب بشيء عليه جبل. إن شعر أخفى ابن خفاجة، أو نثر كثم «١» خصاله ابن أبي الخصال وأطفأ سراجه فإذا نحا من شبه سيبويه، وإذا تكلّم في اللغة محا ابن سيده ما أحكم في المحكم وضرب عليه. وإذا روى عن الأعراب فإليه تقريب ابن قريب «٢» ، وأبو عبيدة عبده الواقف بين يديه، وإن فسّر رأيت ابن عطية منقصا، والقرطبي لا يجد مثل بلدة الماسورة مخلصا، أو السريري قد علل إلى بعض الدواوين منكصا، وابن القيّم واقفا على بابه في يده العصا. مع رواية في حديث النبي صلى الله عليه وسلّم وفقه؛ كأنما طبع منه في مرآة جليّه، ودين يعتصم به المرء، وعدم محاباة إن لاقت به، فلا غرور مع ما بلغه من هذا السنّ والعمر الذي تهدأ به البديهة وتسكن، لا تخمد له قريحة ولا تطمئن به فكرة مريحة، ولا تعزب عن ذاكرته قضية ولو كانت حقيرة أو قصيّة؛ هبة من الله لا تكافى ولا تجدها في غيره، ولو عددت آلافا. قرأ القرآن بالروايات، وسمع الحديث بجزيرة الأندلس وبلاد إفريقية، وثغر الإسكندرية وديار مصر والحجاز، وحصل الإجازات من الشام والعراق، واجتهد وطلب وحصّل وكتب، وله اليد الطولى في علوم التفسير والحديث، والشروط والفروع وتراجم الناس وطبقاتهم وحوادثهم. وله التصانيف العديدة، وتنيف على خمسين مصنّفا. ولّما قدم البلاد لازم الشيخ بهاء الدين ابن