وإن كنت والله أعرفه الرجل الكريم العشرة، الحسن الخلق، يوهم من شاهده من لينه أنه داخل في حكم العامة.
فقال لي: ما عزمت على لقائه حتى وطّنت نفسي على احتمال مشاهدتي أخلاقه. ثم قال: ويحك يا سفيان!، إن شرف التقوى شرف لا يزاحم عليه بإمرة ولا خلافة!. فأدّيت ذلك إلى الفضيل، فقال: إنه لحسن العقل، لولا ما ضرب به من فتنة هذه العاجلة!.
ويسوؤني أيضا، فأما ما يسؤوني منه فلم أر مثله يرفل في سوابغ النعم عريانا من الشكر، ثم قطّب بين عينيه، وقال: ما قدر من كان لله عاصيا؟. لا حاجة لي في لقائه.
فلم أزل أرفق به حتى أذن، فرجعت إلى الرشيد فأعلمته، وقلت له: ليس يطمع فيه إلا وقت إفطاره، وكان إفطاره كاختطاف الطائر حبّه.
فركب الرشيد، ولبس مبطنة، وطيلسانا، وغطاء رأسه، ومعه مسرور الخادم، وأنا؛ فدققت الباب؛ فنزل وفتح، ودخل، ودخلت معه، ووقف مسرور على الباب، فسلّم عليه الرشيد قائما، فتشمّ منه رائحة المسك، فقال الفضيل:" اللهمّ! إني أسألك رائحة الخلد التي أعددتها لأوليائك المتقين في جنات النعيم".
ثم تبادرت دموعه على لحيته، فقلت: يا أبا علي! هذا أمير المؤمنين واقف يسلّم عليك، فرفع رأسه، وقال: وإنك لهو يا حسن الوجه؟. ونظر إلى الرشيد وهو يبكي، فقال له: اعلم أن الأحكام قد سلبت فضيلة العدل، وهو في صحيفتك يدرج معك في كفنك ليوم النشور، وقد بدا إليك سرعة نفاذ ما أنت فيه من تقدّمك من آبائك، ثم نهض، وقال:" الله أكبر". فقلت له: يا أمير المؤمنين! أما إذا افتتح الصلاة فليس فيه حيلة.
وانصرفنا. فقال الرشيد وهو خارج: لولا خجلي منك لقبّلت ما بين عينيه، فقلت له: والله لوددت أن فعلت!.