قلت: أنشدني شيخنا أبو الثناء الكاتب رحمه الله تعالى هذه الأبيات، وقال: كان من خبرها أن ابن هود حجّ، فلما أتى المدينة، وشارف أعلامها، نزل عن دابته واغتسل، ولبس ثيابا نظافا، ثم جعل يمشي، وهو يهمهم بكلام خفي سمعه بعض من كان يمشي خلفه، فإذا هو يقول:
نزلنا عن الأكوار نمشي كرامة ... لمن حلّ أن نلم به ركبا
ثم لم يزل يطأ من رأسه، ويخضع حتى أتى باب المسجد وكأنه راكع، فسلّم على النبي صلى الله عليه وسلم من ظاهر الحجرة، بأكمل الأدب، ثم صلى ركعتي التحية بالروضة، ثم خرج إلى الزيارة، فجلس على الرمل، ثم جعل يبكي ويخط على الرمل الأبيات، فقرأها بعض الحاضرين، فحفظها، وأنشدها عنه.
قلت: حدّثت بهذا الشيخ سعيد خادم ابن هود، فقال: صحيح.
وحكى لي شيخنا أبو الثناء قال: أتى لاجين نائب الشام، وحسام الدين الرازي ابن هود، وهو لا يعرفهما، وكان مع لاجين سجادة، ففرشها تحت ابن هود بيده، وساعده الرازي. فقال له بعض من عنده: يا سيدي! هذا نائب الشام، وبيده قد فرش لك السجادة، وهذا الذي معه من أكابر العلماء. فقال: بارك الله فيهما، والله ما فرش إلي السجادة إلا ليجلس على سرير الملك، وصاحبه قاضي القضاة.
وكان ابن هود ذا علم جمّ، ولكن كانت الغيبة غالبة عليه، ولقد كان يبقى الأيام والليالي لا يأكل طعاما، ولا يشرب شرابا، وكان كثيرا ما يقعد في مقابر كيسان مستدبرا للمدينة، متوجها إلى القبلة، ويبقى الأيام الكثيرة في الحر والبرد، لا يتغير من مكانه، ولقد رأيته هناك في زمان صيف شديد، وقد لفحته هواجر الحر، وأثر فيه السموم، وكانت بيني وبينه صحبة، ووقفت أمامه، وأنشدته:
أنت المنية والمنى فيك استوى ... ظل الغمامة والهجير المحرّق
فرفع رأسه إليّ وقال: من تكون؟ فعرّفته بنفسي، فقال: ما أعرفك، فانصرفت، وأنا