مثل هذا من القاضي الرفيع، عرف عليه، فصار ذوو المال يأتونه قبل افتعال الحجج فيقدمون له ما يختص به، فيسكت عنهم، فإذا ذكرهم الأمين الخائن له دافع عنهم، فأوغر ذلك صدره، وكدّرله ورده وصدره، حتى حالت به الحال، وآل إلى ما آل".
وحكى لي شيخنا الإمام أبو الثناء محمود الحلبي الكاتب قال:" حدّثني شيخنا قاضي القضاة ابن خلكان قال: كان الرفيع ذا كرم وسخاء، وكان جاريه «١» لا يقوم ببعض كفايته، فكان يتجشم البلايا ولقد ألجأته الضرورة إلى أن باع مرة عمامته، وأنفق ثمنها؛ فلما أصبح وأراد الركوب إلى موكب السلطان، استعار ما لبسه وركب به.
قلت: وقد رأيت كتبا كثيرة من كتب الأملاك والأوقاف، وفيها إسجالات على القاضي الرفيع، فلما اتصلت تلك الكتب بمن بعده من القضاة وصلوها إليهم بمن كان قبل الرفيع، وأضربوا عنه، فلم ينفذ له حاكم جاء بعده حكما إلا كتابا واحدا كان في وقف مدرسة بالمدينة الشريفة النبوية- على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التحية-، وأظن أنه إنما سومح فيه لتيقن براءته من غرض في ذلك، إذ كان جهة بر، ولم يكن هو أول من حكم به، ولا أول من نفذ حكم من حكم به، ومع هذا لم أر من كبار أهل هذا الشان إلا من عجب منه، وأحببت التنبيه على ذلك ليعرف عند الحاجة لئلا ينسى بتطاول المدد.