بعد أن صرف جلال الدين عن القضاء، وأتى قوصون، وكان قوصون لا يرى إلا أنه ولد له، فلما أتاه قام له وأكرمه، وقال له: قد جئت إليكم لأجتمع بالسلطان في مصلحة له، ولكم، ما أمكنني إخفاؤها عنكم. فقام قوصون لوقته وعرّف السلطان بمجيئه، وبما قال، فأكبر السلطان مجيئه وقال: قل له يعرفنا بالمصلحة التي رآها. فقال له، فقال: اعلم أن هذا القاضي جلال الدين قاض كبير مشهور في الشرق والغرب، وقد زوج بناتكم، وزوّجكم، وأثبت كتب أملاككم وأوقافكم، وحكم لكم أحكاما كثيرة، ومتى عزل هكذا وخلّي بلا قضاء مع كونه لم يعجز، ولا بلغ به الكبر، حصل بهذا التطرق إليه، وإذا تطرّق إليه انتقض عليكم جميع ما حكم لكم به. وقال له من هذا ومثله ما بلغه إلى السلطان، فقال: صدق الشيخ، ولّوه قضاء الشام كما كان، فأمر له به، وجهّزه إليه، فأقام به مدة، وتنكز لا يبش به، ولا يمكنه منعه.
ثم حصل له استرخاء وفالج أبطله؛ فاستناب ولده الخطيب عنه في كل ما ولّاه السلطان، وبقي يراجع في جلائل الأمور إلى أن مات، ودفن بمقابر الصوفية.
وهو ممن أخذت عنه علم المعاني والبيان. وقلت أرثيه، وكتبت بها إلى ولده الخطيب بدر الدين محمد:[الطويل]
أحقا بأن البحر خف معينه ... وأن وقور الطود خف رزينه
أحقا بأن السيف أغمد حدّه ... بطيف كرى ليست تنام جفونه
أحقا بأن الشمس غاب ضياؤها ... وقد بان من بدر التمام جبينه
أحقا بأن النوء أقلع نائيا ... وآلى يمينا «١» لا تجود يمينه
أحقا بأن الدّرّ آن ابتذاله ... وأهوى من الجفن القريح «٢» ثمينه