القسطنطينية، ويدخل مسورها والتجار والسفارة من سائر الأقطار من المسلمين والنصارى وغيرهم، يأتي إليها وينزل بها، ويبيع ويشتري فيها، ولا حرج عليهم ولا تضييق.
والمسلمون فيها على جانب أعزاز وإكرام، فيها سكان من المسلمين يسكنونها إلى اليوم، لا يمسهم ولله الحمد ذل ولا هوان، ولهم مساجد وأئمة تصلي بهم الجماعة، فتظاهر فيها بشعائر الإسلام، وللملك اهتمام بكف الأذية عنهم، وإذا شكى المسلم إليه على أحد من النصارى، ولو أنه من عظماء البطارقة، أشكاه وأنصفه منه، ولا اضطهاد، ولا ضيم في جميع مملكة هذا الملك عليهم ولو تغيرت الملوك، واختلفت الأحوال، لا يقدر الملك على تغيير حاله في هذا، ولا مخالفة لمن تقدمه فيه لأنها عادة تدين بها ملوكهم، وسارت بها في ملوك النصرانية سيرهم، فلو عدل الملك عنها، لمنعه البطريرك، وو آخذه به وآخذه بالرجوع إلى عادة أسلافه، واشتد في منعه، فإن رجع، وإلا كان السبب بتحريمه، فإن رجع، وإن كان السبب لخلعه.
والروم أسخى من جميع الطوائف النصرانية، واسمك في الكرماء نفوسا، وأمسك ناموسا، ومع هذا فما فيهم من يداني العرب في كرم، ولا يقاربهم في جود، والشح غريزة في طباع النصارى، لا ينفق إلا فيما (المخطوط ص ١٩٣) يتنغم به، فينفقه في اللهو والطرب، والنخوة فيهم قليلة، وهذه جملة ما ذكروه من أخبارهم، وفهم من كلامهم.
ومما أقوله أن أول دليل على عظم القسطنطينية ومالها من الممدود غزوة هارون الرشيد إياها سنة خمس وستين ومائة، كان أبوه المهدي قد وجهه إليها وهو إذ ذاك ولي عهد أبيه المهدي، فخرج يوم السبت لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة [١] غازيا إلى بلاد الروم، وضم إليه المهدي الربيع مولاه، فتوغل هارون الرشيد