بالوفاء، وفاز هو بما تجلى له منهم من موارد الصفاء، وكانوا يرونه القلب الذي يسع سرورهم، والشباب الذي يحسن غرورهم، وأيامه مطويات إلى بلوغ آرابه، وسبوغ النعمة فيما زنده أورى به، هذا إلى عفاف تشهد به المضاجع، وكرم وخير وتقدم في أول وأخير، ونفس ما أشربت حب الحرام ولا اشرأبت إلى غير اختلاف الكرام.
قال أبو الفرج، قال إسحاق: بقيت زمانا من دهري أغلّس «١» كل يوم إلى هشيم، ثم أصير إلى الكسائي وأقرأ عليه جزءا من القرآن، وآتي الفرّاء فأقرأ عليه أيضا، ثم آتي منصور زلزل فيضاربني طرقين «٢» أو ثلاثة، ثم آتي عاتكة بنت شهدة فآخذ منها صوتا أو صوتين، ثم آتي الأصمعي فأناشده، وآتي أبا عبيدة فأذاكره، ثم أصير إلى أبي فأعلمه ما صنعت، ومن لقيت، وما أخذت، وأتغدى معه، فإذا كان العشاء رحت إلى الرشيد.
قال إسحاق: دعاني المأمون يوما فسألني عن صوت، فقال: أتدري من صنعه، فقلت: أسمعه، ثم أخبر أمير المؤمنين بذلك إن شاء الله تعالى، فأمر جارية من جواريه وراء الستارة، فغنت وضربت [ص ١٦٩][فإذا] هي قد شبهته بالقديم، فقلت: زدني معها عودا آخر، فإنه أثبت لي، فزادني عودا آخر، فقلت: يا أمير المؤمنين، هذا الصوت محدث لامرأة ضاربة، فقال: من أين قلت ذلك؟ فقلت لما سمعته وسمعت لينه، عرفت أنه من صنعة النساء، ولما رأيت جودة مقاطعه، علمت أن صاحبته ضاربة وقد حفظت مقاطعه وأجزاءه، ثم طلبت عودا آخر فلم أشك، قال: صدقت، الغناء لعريب.