الحجب المنيعة، وأسدلت بين أخصاء الخدم وبينها الستور الرفيعة، وكان الرشيد شديد الغيرة عليها، والغيلة لمن أومأ بنظره إليها، هذا حاله مع خدم الدار «١» ، وحرم من آواه»
حرم ذلك الجدار، فأما من سواهم، فلا يقع عليها مقل النجوم نظر ناظر، ولا يمر من خاطر النسيم على ذكر ذاكر، إجلالا لمكانها، وإجفالا من رقباء الرشيد الطائفة بأركانها، ثم هتكت بالغناء سترها الرفيع، وهونت حجابها المنيع، فعرضت عرضها «٣» للتشنيع، وعرضت عرضها للتضييع، ولم يغنها أن أخلدت إلى هذه الصناعة، ورمت مالها بالإضاعة [ص ٢٠٥] ، حتى صارت تظهر لأهل الغناء، وتختلط بمن يؤهل من قومه المهناء، فأصبحت لا تعد في ذوات الستور، ولا تعاب إلا بما تحمد به البدور من السفور، وإنما أمها بصبص، وحق سرها فيها قد حصحص، وكانت هي وأخوها إبراهيم أقدر أخوين على الغناء، وأقوم رسيلين بالغناء كانت كأنما أعطيت مزمارا من مزامير داود، أو حركت أوتارا ركبت في لهواتها لا في العود، على كمال أدب بارع، وظرف إلى هز المعاطف مسارع، مع جمال تنقبت بنقابه وكمال تجلببت بجلبابه، ورقة خلائق كان نشر الصبا يدمثها، ودقة معان كان صوت اليراع ينفشها، وكان الرشيد لا يقدر على فراقها لسماع تلك الأغاريد، وإمتاع ذلك اللسان الحلو بلقائط تلك الأناشيد، وكان لا يتم سروره الا بحضورها، ولا يعم حبوره إلا إذا برزت نحوه من ستورها.
قال محمد بن إسماعيل بن موسى الهادي، كنت عند المعتصم وعنده مخارق وعلوية ومحمد بن الحارث بن بسخنر وعقيد، وكنت أضرب عليه فغنى:«٤»[المديد]