للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وأمره أن يروض نفسه ويغالط حسه، ويضرب عن كثير مما يلحقه صفحا، ويطوي دونه كشحا، ويستحسن الصمم عن الفحشاء، ويغمض عن اللفظة الخشناء، وإن أتته اللكزة في حلقه، صبر عليها في الوصول إلى حقه؛ وإن وقعت به الصفعة في رأسه، أغضى عنها لمراتع أضراسه؛ فإن لقيه لاق بالجفاء، قابلة باللطف والصفاء، إذ كان إذا ولج الأبواب، وخالط الأسباب، وجلس مع الحضور، وامتزج بالجمهور، ولا بد أن يلقاه المنكر لأمره، ويمر به المستغرب بوجهه؛ فإن كان حرا حييا أمسك وتذمم، وإن كان فظا غليظا همهم وتكلم؛ وأن يجتنب عند ذلك المخاشنة، ويستعمل مع المخاطب الملاينة، ليرد غيظه، ويفلّ حده، ويكف غربه؛ ثم إذا طال المدى تكررت الألحاظ عليه فعرف، وأنست النفوس به فألف، ونال من الحال المجتمع عليها، منال من حشم وسئل العناء إليها.

ولقد بلغنا أن رجلا من هذه العصابة، كان ذا فهم ودراية، وعقل وحصافة، طفل على وليمة رجل ذي حال عظيمة فرمقته فيها من القوم العيون، وتصرف بهم فيه الظنون، فقال له قائل منهم: من تكون أعزك الله؟، فقال: أنا أول من دعي إلى هذا الحق؛ قيل له: وكيف ذلك ونحن لا نعرفك؟ فقال: إذا رأيت صاحب الدار عرفني وعرفته نفسي؛ فجيء به إليه، فلما رآه بدأه بأن قال له: هل قلت لطباخك «١» أن يصنع طعامك زائدا على عدد الحاضرين، ومقدار حاجة المدعوين؟ فقال: نعم؛ فقال: فإنما تلك الزيادة لي ولأمثالي، وبها تستظهر لمن جرى مجراي، وهو رزق أنزله الله على يدك، وسببه من جهتك؛ فقال: مرحبا بك وأهلا وقربا، والله لا جلست إلا مع علية الناس، ووجوه الجلساء والأناس، إذ قد طرفت في قولك، وتفننت في فعلك؛ فليكن ذلك الرجل لنا إماما نقتدي به، وحاديا نحدو على مثاله، إن شاء الله.

<<  <  ج: ص:  >  >>