كلامه هنا- قليل الغوص بخلف مقاماته، فإنه فيها كمن طلب الروض فجنى زهرها، وصعد السماء فاقتطف زهرها؛ وإنما تركت اختيار شيء له منها لشهرتها، ولأنها صارت كتابا بذاته، لا تعدّ في سلك ترسّلاته؛ وبينهما في حسن الكون، ما رأيت من هذا البون، على أن ما أوردت له من هذه الرسائل هي الفرائد التي لا تقوّم، والفوائد التي تعني من يتعلم، متماثلة في توفيه الأغراض، مغازلة كالجفون المراض، سهلة على فهم المتناول، قرمة «١» لا تنالها يد المتطاول.
**** وأما القسم الثاني من أصحاب الغوص، فسنذكرهم على أن حكم أكثر الكتّاب القدماء حكم العرب، كلاهما له فضيلة السبق، وفتح الطريق؛ وحكم المتأخرين منهم حكم المولدين من الشعراء، في توليد المعاني والمجيء باللّطائف؛ وقد وشحوا صناعتهم بالاستعارات الصحيحة والتشبيه والاستخدام والتورية وأنواع البديع، وتناهوا في الدقيق والتنميق، وتباهوا في التخيّل والتخيير، وقيدوها بالأسجاع، ولزموها كالقوافي، فلم يعوزها «٢» من الشعر إلا الوزن فأخملوا الأوائل، وأخمدوا كل قائل، وأتّموا الفن وكمّلوه، وزينوا الفضل وجملوه؛ وهذا مكان للمغرب فيه مع المشرق مجال، وميدان له في فرسانه رجال، وهو في هذا غير ممنوع ولا مدفوع، لكنه فيما تقدم المئة الرابعة لا يذكر له في هذه الفتية فيئة «٣» ، ولا تظهر له هيئة؛ ثم ما عدم في هذا الشأن ما أوهن زجاج حاسده، وأشرق بغصص الدمع شأن معانده؛ ولا نقول هذا على أن للغرب بهذا المزية على الشرق، ولا أنه سلّم إليه في هذا الحق، وإنما نحن بصدد إنصاف، وما يبعد فيما بين الغرب والشرق في هذه الفضيلة، ولا نجحد أن له بمن نعده هنا