المعتكر «١» طرقا؛ كاد يلتهب فكره ذكاءا، وينتهب ذكره ذكاءا «٢» ، كأنما كلمه حبر أو لفظه زبر؛ سجعه قصير، ونفعه كبير، من سمع حسّانه تبع إحسانه، ومن فهم بيانه، علم أن فوق السّحاب بنانه؛ وربما كاد يحكيه لو وهب، لو كان- كما قال- طلق المحيا يمطر الذّهب «٣» ؛ نافح الرّياض فأخذ أنفاسها، وسافح السحائب فنثر أكياسها، بزّ الكواكب ولبس لباسها، وبذّ المدام وسلب الحميّا كأسها، فجاء بسحر عظيم إلّا أنه حلال، وخمر لا لغو فيها ولا تأثيم وفيها الخلال؛ ووراءه جرى الحريريّ لكنّه نقّح، على أنه مما ترك البديع ولقح.
وذكر البديع أبو منصور الثعالبي، فقال: هو أبو الفضل، أحمد بن الحسين الهمذاني مفخر همذان «٤» ، ونادرة الفلك وبكر عطارد، وفرد الدّهر، وغرة العصر، ومن لم يلف «٥» نظيره في ذكاء القريحة، وسرعة الخاطر، وشرف الطّبع، وصفاء الذهن، وقوة النفس، ولم يدرك قرينه في ظرف النّثر وملحه، وغرر النظم ونكته، ولم يرو أن أحدا بلغ مبلغه من لب الأدب وسرّه، وجاء بمثل إعجازه وسحره؛ فإنه كان صاحب عجائب وبدائع؛ فمنها:
أنه كان ينشد القصيدة لم يسمعها قطّ، وهي أكثر من خمسين بيتا، فيحفظها كلّها، ويوردها إلى آخرها، لا يخرم حرفا منها [ولا يخلّ بمعنى] ، وينظر في الأربع والخمس الأوراق، من كتاب لم يعرفه ولم يره إلا نظرة واحدة خفيفة، ثم يهذّها عن ظهر قلبه هذا، ويسردها سردا.