منهلة المدامع من عيون الجبال على خدود المروج، مزررة الجيوب على أكمام الغيوم التي ما للابسها من فروج، ولم تزل أقران الزحف، في غدران الزعف «١» ، ترميهم بالقوارص، وتأتيهم من البأس بما ترعد منه الفرائص، وتقلب لهم ظهر المجن، وتطرق أفئدتهم من الحرب بكل فن، وتقرب الأسواء من الأسوار، وتمزج لهم الأدواء في الأدوار، إلى أن وهى سلكها، ودنا هلكها، وسفل منها ما علا، ورخص ما غلا، وفتحناها وأنخناها، وخليناها وقد أخليناها، فأمست كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ، وأصبحت حصيدا كأن لم تغن بالأمس.
وهذه المدينة لها سمعة في البلاد، ومنعة ضربت دون العزم بالأسداد؛ فتحت في صدر الإسلام في ولاية معاوية بن أبي سفيان، وتنقلت في أيدي الملوك، وعظمت في زمن بني عمّار، وبنوا بها دار العلم المشهورة في التواريخ، فلما كان في آخر المئة الخامسة وقدّر ما قدّر من ظهور طوائف الفرنج بالشام، إذ استولوا على البلاد، امتنعت هذه المدينة عليهم مدة، ثم ملكوها في سنة ثلاث وخمسمئة، واستمرت إلى الآن، وكان الملوك في ذلك الوقت ما منهم إلا من هو مشغول بنفسه، مكب على مجالس أنسه، يصطبح في لهوه ويغتبق، ويجري في مضمار لعبه ويستبق، يرى السلامة غنيمة، وإذا عن له وصف الحرب «٢» ، لم يسأل إلا عن طريق الهزيمة؛ أموال تنهب، وممالك تذهب، ونفوس قد تجاوزت حد إسرافها، وبلاد تأتيها الأعداء فتنقصها من أطرافها، إلى أن أوجد الله من أوجده لنصرة دينه، وإذلال الشرك وشياطينه، فأحيا فريضة الجهاد بعد موتها، ورد ضالة الملك بعد فوتها؛ ونرجو بقدرة الله أن نجلي ديارهم من ناسهم، ونطهر الأرض من أدناسهم، ونجدد للأمة قوة سلطانها، ونعيد كلمة الإيمان إلى أوطانها؛