غناه عن التحصيل أدأب، ولا أظن مثله أجمع لمدحة وآبدة، وأخبار أمم باقية وبائدة لديها واقدة، ولا مقل الفراقد عن التطلع إلى هذا، وما كسا الزمان مثله ثوبيه، ولا حمل الوجود حفيا شبهه بين جنبيه، فهو محدث يحدث بالصحيح، وتروى عنه العجائب، والمعروف وكله غرائب، كم قال وكم ألجم الحصر كل لسن، وقام بالسنة وكل سنده علي وحديثه حسن، هذا على أنه حامل فقه لا ينقل إلى أوعى منه، ومتقن علم لا يؤخذ القديم والحديث إلا عنه، نعم وأنعم به من مؤرخ ينسئ الأمم وينشر الرمم، وينشد ضوال الأنباء وقد أماتها البكم، وأقبرها الصمم، فشق أصداف اللحود عن دررهم، وكشط جلد الدهماء عن غررهم، وأوجدهم فما كتب من التاريخ وجودا ثانيا، فأقاموا به أرواحا وسئلوا فقالوا فصاحا: ساقهم في تاريخه فكأنما قاموا في صعيد واحد لديه، وأتى بهم من عهد آدم وهلم جرّا إليه، أجل، وهو أجل كاتب تخضع لطرسه مهارق السحائب، ويخشع لقلمه سيف البرق المسنون، ويسقط قلبه الواجب، وأضاء أيضا له نور حكمة، يغلب فجرها الطالع مشارق الأنوار، ويغل فكرها السابق يد القيرواني «١» إن نظمت أبكار الأفكار، ويذهب التحصيل وليس من بدره المنير درهم ولا من شمسه المشرقة دينار؛ وينبو دونه مضرب السيف ولو أن الآمدي ذا الفقر ذو الفقار، فأما ابن سناء فيخفي في طي البروق إشاراته، والرازي يرزأ كتبه، وتجف في لسان القلم عباراته، وقل أن وجد في علم أقليدس مثله من يحل إشكاله، ويجل أشكاله، ويغدو من قلّ علمه الأقلودي للأرض مقسما، ولمقادير الكواكب متوسما، بل لو وصل إلى ابن واصل علمه لقنع بما فضل، أو ابن العديم جمال الدين ما عدم ما تعنّى إليه وما وصل، وكل هذا عوله على أدبه الذي هو أغض من ورق النبات، وأحسن من تذهيب الحياء فضة خدود البنات، بقريحة