٨- وتأسيسا على ما نقّدم نستطيع القول باطمئنان إنّ شخصية العمري الناقدة، وثقافته الواسعة، ونجاحه في الاختيار يظهر جليّا سواء أكان في تلك المقدّمات أم في الشعر المختار، فهو يفيد في تلك المقدمات من التراث النقدي، والأدبي الذي سبقه، وينتقي منه ما يقتنع به ويستصفي لكتابه ما هو لائق به ليصبّه أخيرا بأسلوبه الخاص، ومنهجه الذي ارتضاه لنفسه.
٩- وممّا يتعلّق بالنقطة السابقة، أي موقفه النقدي من الشعراء، ما رأيناه من فصله الحاسم بين حياة الشاعر، وما ورد في شعره من خروج على التقاليد، وبين حكمه النقدي عليه، فهو يبدو غير متأثّر البتّة بالأحكام الأخلاقية التي تزن الشاعر وشعره بميزان الحرص على القيم السائدة، وترك الخروج عليها فله على سبيل المثال رأي حسن في ابن الحجّاج، وابن منير الطرابلسي مع أنّ إبداعهما مليء بما يخدش الثابت والقارّ، وكأنّه بذلك يرسخ ذلك الاتجاه القديم الجديد في النقد العربي من الدعوة إلى فصل الشعر عن الأخلاق، والنظر إليه بمعايير الفنّ وحده، وهو الاتجاه الذي نظّر له تنظيرا هامّا الناقد قدامة بن جعفر في كتابه [نقد الشعر] .
وظلّت الجمهرة من النقّاد العرب وفيّة له على مرّ عصور النقد العربي، وجاء العمري بأخرة ليدعمه من خلال الرأي، والاختيار لكليهما.
١٠- ومن الضروري أن نشير هنا إلى ما يظهر جليّا في تلك المقدمات من اصطناع صاحبها فيها لأساليب الصنعة اللفظية، وأفانين الزخرفة اللغوية بحيث تكاد تكون هي الصوت المنفرد العالي فيها، إذ يعمد بشكل مقصود إلى توظيف الجناس، والطباق والسجع، والتضمين حتى ليكاد القارئ يشعر أنّ القطعة ترزح تحت وطأة حمل كبير وترسف بأغلال ثقيلة تمنعها من التحرك والانطلاق، ولعلّ هذا قد جاء منسجما مع أسلوب الكتابة السائد في عصره من جهة، وهو يتناغم مع ما استقرّ عليه في الكتابة الديوانية التي صار جزءا أصيلا فيها من جهة أخرى.
هذه هي الصورة العامة لهذا السفر، وهو يتضافر مع أسفار الكتاب الأخرى مقدّما جهدا علميا نادرا، وصبرا على التصنيف قلّ نظيره.