خلص به ذهبا، وقّاد الذهن كأنّما حرش به لهبا. جال البلاد وجابها، وجاز على الملوك وما هابها، وتوغّل غارب كلّ سرى كأنّه كوكب أو هلال، وغالب كلّ كرى كأنّه عاشق أو خيال. طوّف جانبا من الأرض لا يزوي عنه منها إلّا ما قلّ، وما ترك بعضه لبعض منه عليه دلّ، وكان مقدّما حيث حلّ، متقدّما في الغوص ما دقّ به معنيّ الأجلّ، ومدح الملوك والوزراء، والرؤساء مدائح موسومة، ومنح الدّرر وأخذ البدر، أخذها منثورة، وأعطاها منظومة. وله في سيف الدولة ابن حمدان غرر القصائد، ومنه في جوائزه مالا يصيبه سهم كلّ صائد، وكان له منه قبول يبرق أساريره، وتشرق في صحائف الأيام أساطيره، واحتفال به كاد يلحق السعدي بالكندي، لا بل يجعله أسعد، ويرفعه عليه إلى ما هو أصعد، ويقرّبه قربا يسرّ أبا الطيب أن يدانيه ولو كان منه أبعد. وله مع ابن العميد أمور يضيق هذا الموطن بإثباتها، ولا يطيق إبراز مخبآتها، ولا يفيق سكرا من راحها الممزوج بسكّر نباتها.
فأمّا أبياته الخارجة مخرج الأمثال، وكلماته/ ٣٨٧/التي كأنّما تنصبّ في القلوب أو تنثال فما لا يطاولها باع ملتمس، ولا يحاولها شعاع مقتبس، كلّ معنى لا يلتبس، وكلّ بيت وأخوه يقول له: أنا أخوك فلا تبتئس.
من ذلك قوله:[الطويل]
وولّوا عليها يقدمون رماحنا ... وتقدمها أعناقهم والمناكب «١»
خلقنا بأطراف القنا لظهورهم ... عيونا لها وقع السيوف حواجب
بيوم العظالى والسيوف صواعق ... تخرّ عليهم والقسيّ حواصب «٢»
لقوا نبلها مرد العوارض وانثنوا ... لأوجههم منها لحيّ وشوارب