المعلّقة، ثم إنّ الصالح أراد به زيادة اختلاطه، قوة ارتباطه، فدعاه كما تقدم في ذكر الفائز ليدخل في مذهبه، ويعجّل له آلاف ذهبه، فتباعد من أربه وتأفف من سوء مشربه، وكان الصّالح قد كتب إليه:[الكامل]
قل للفقيه عمارة يا خير من ... أضحى يؤلّف خطبة وكتابا
الأبيات الخمسة المقدّمة الذكر، فيما مرّ من هذا الكتاب. فلما أتت عمارة هذه الأبيات، وسع من الغيظ فوق مليئه، وحمل النّفس حشو عبيئه، وأبى له أن يخيب يقينه، وأنف له لهذه الدنيّة دنية، وكان شافعي المذهب، حسن المعتقد، متعصّبا لأهل السنّة. وكان هذا ينكّب خطّته، ويتجنّب خلطته (٤٨) وكتب إليه جوابا أقذاه، وطوى جوانحه على أذاه وهو:[الكامل]
يا خير أملاك الزّمان نصابا ... حاشاك من هذا الخطاب خطابا
الأبيات الثّلاثة المقدّمة أيضا. ثم إنّ الصّالح يفسد ما بينه وبين عمارة، وسكت عنه تصريحا وإشارة، وسدّ هذا الباب فلم يفتح له قفلا، ولم يكلّفه منه فرضا ولا نفلا، بل قاربه إذ جانب، وواصله إذ جاذب، وكان هو وإياه خليطي خمر وماء، وقسيمي بؤس ونعماء، وكان الصّالح يغمره ببحره، ويؤمّره على أمره، وعمارة يجعل شكره صحيفة آنائه، وحقيبة ثنائه، يقرن كل بيت بوفقه، وينظم كلّ معنى إلى لفقه، ومضت قريحته على هذا التوالي، ودبت الأيام ودرجت الليالي، بفرائد ماتت بين السحر والنحر، وقصائد نظمت حاشيتي البرّ والبحر، ومدائح ركبت الأفواه ووردت المياه، وطرقت الأندية والخدور، وحلت الأطراف والصدور، وقال فسكت كلّ متكلّم، وصدّ كلّ ناطق مترنّم، ويدلّ على أكبر حاله قصيدته التي مدح بها السّلطان صلاح الدّين، ومنها قوله:[الطويل]
أيا أذن الأيام إن قلت فاسمعي ... لنفثة مصدور وأنّة موجع