تفطّرا من الزّجاج، وآكل للقدر من الدّجاج. لا له زاجر يردعه، ولا أمر من العفاف يسعه، يطير مع كلّ ناعق، ويعوي لكلّ ناهق، إذا شعر نبح، وإذا أنشد كبح. يتهادى إلى كلّ مجلس كأنّه زلزلة، ويتباذى وما حرج من الخطوة الحاضرة قدر أنمله. على أنّه حام تتحامى صرحه الذّئاب، ويعرف فضله على كثير ممّن لبس الثياب. يرعى العظام ولا يلج بيت جاره إلّا أنّه يسعى حول الخيام، ذو حميّة ما شهد شبهها يوم الكلاب، وحفيظة ما عرف مثلها لبني كلاب، ببصر حديد، وساعد شديد، وفطنة لو تقيّد بها علم الطّبّ أو تنحّل علم أبقراط فصار الأكحل لا يخاف الغارة الشعرى ولا يهاب في السماء العوا. لا يزال في الحيّ منه طائف يسعى، ومقدام الأسد إذا أقعى، تتوقّى الأعداء من كلبه، وتتطاول الرءوس ولا تصل إلى ذنبه. فاتك أخلا رامة من ظباتها السوانح، وسبق بطشه الجوارح. إذا رأته كلاب الحيّ بصبصت أذنابها، وأكرمت مقدمه كأنّها تعرف أنسابها. إذا نبذت له الحصاة ينزو لوقعها، وينبو لسمعتها. وله خطّ يروق وشي قلمه، ويطول بعصيّ يراعه كأنّما يهش بها على غنمه. هذا مع رجوعه إلى أكرومته وعفافه، وقنعه بقليل الذّمّ بلغه، واللحم موفر لأضيافه، وعدم تهافته على آمال تتنافس طلابها، ودنيا تزاحم منها على جيفة وتهارش كلابها.
وحكى لي من لا أتّهمه، ممن كان يصحبه ويلزمه، (٢٧٣) ويبيت عنده ولا يضجره ولا يبرمه، أنّه كان ينام عنده الليلة الطويلة بتمامها، ويصبح النّهار ويتضحّى وهو نائم، فإذا حضر الغداء، أنبهه فقعد فأكل، لا يغسل وجها ولا يدا، ولا يقف مع أمر كأنّه خلق سدى، ما استيقظ وتوضّا، ولا صلى سنة ولا فرضا، هذا مع إصرار لا يهمّه منه لبس القبائح، ولا يخيفه تشيع الفضائح، ولا يضرّه أن يبيت جسمه سماط السّياط، وعرضه قرى القوابح. وعلى هذا فهو شاعر يملأ السمع عجبا، ويهزّ الجماد طربا، لا يفوته صيد معنى شارد، ولا ليل