للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فاضل، وكان أول من سنّى الجوائز، وسنّ عوائد الكرم، وقسم للخير زمانه، ووسم في غرر الدهر إحسانه، كان لا يزال في حج أو جهاد، ولا يزل عن ذرى مطية أو جواد، قد ضرب بسهم في كل فضيلة، وقسم من كل جميلة، وقد ذكر ابن عبدوس أن الكلف كانت قليلة في أيامه، فإنه ما زاد المقررات كبير زيادة على ما كان، إلا أنه كان يهب هبات لا ينهض بها عبء إمكان، فإذا أعطى استوصلت البحار، واستبسلت بعجزها الأمطار، ووسع عقود المنن، ووسّع برود دولته بمحاسن السنن، وآثاره في غزو بلاد الروم ظاهرة، وأخباره فيها لوامع في أيامه الزاهرة، وكذلك لم يخل الترك من غزوات سلت في وجوههم السيف، وسلطت عليهم حتى الطيف، إلا أن قضية البرامكة جرحت القلوب ونفّرتها، وقرحت العيون وأسهرتها، ثم ندم عليهم ندما أكل عليه يديه، وقرع سنّه مما جرى بسببهم عليه، على أن الندم لا يرد به فائت، ولا يصح به من هو في القبور بائت.

وذكر أن الرشيد كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، إلا أن تعرض له علة، وكان يتصدق من صلب ماله في كل يوم بألف درهم بعد زكاتها، وكان إذا حج أحج معه من الفقهاء وأبنائهم، فإذا لم يحج أحج ثلاث مائة رجل بالنفقة السابغة، والكسوة الطاهرة، وكان يقتفي أخلاق المنصور، إلا في بذل المال، فإنه لم ير خليفة قبله كان أعطى منه لولي، ثم المأمون بعده، وكان لا يضيع عنده إحسان محسن، ولا يؤخر ذلك في كل ما يحب ثواب، وكان يحب الشعراء والشعر، ويميل إلى أهل الأدب والفقه، ويكره المراء في الدين، ويقول: هو شىء لا نتيجة له، وبالأولى أن لا يكون فيه ثواب، وكان لا يحب إلا المديح، ولا سيما من شاعر فصيح، ويشتريه بالثمن الغالي الربيح، ودخل عليه مروان بن أبي حفصة فأنشده شعره الذي يقول فيه: «١» [ص ١٢٤]

<<  <  ج: ص:  >  >>