شك أني أعتقد براءة ساحته، وما كان بأسرع من أن جاء الموفق من الجبل وقد اشتدت به علته، ومات، وأخرجني الغلمان من الحبس وأروني مكانه، وأورثوني سلطانه، وقاد الله الخلافة إليّ، ومكنني من ابن بلبل، فأخذت ثأري بيدي، وكان المعتضد ملكا مهيبا، إذا اغتاظ توقد لهيبا، وبويع بالخلافة وقد تمزقت كل ممزق، وتوزع ملكها وتفرق، وقد صار كل طرف بيد ثائر، وكل إقليم تحقق عليه نبذ كل ملك جائر، واضمحلت الحرمة كأنها لم تكن، وصعبت الأمة كأنها لم تهن، فقام حتى جمع شلوها المبدد، ومنع أديمها المقدد، وكان في الغنية مثل موافقه في الكنية أبي العباس السفاح في تعريض وجهه للكفاح، وكل منهما أقام دولة أبي العباس، وأقاد لها أنف كل ذي باس، وكلاهما كانت خلافته للخلافة العباسية بانية، ذاك أوله وهذا ثانيه، وكانت له على الأتراك وأرباب دولته سطوة تخاف بها أبصارهم أن تختطف، وأعمارهم أن تقتطف، حذرا من ضيغمة المفترش المفترس، وأرقمة المنتهش المنتهس، وعقابه الخطوف الكاسرة، وعقابه الممثل بعذاب الآخرة، فإنه كان أليم العذاب، عقيم العقاب، وكان يدلي عليهم الحرس، ويذكر لهم من أمورهم وبيوتهم ما يلجمهم بالخرس، وما عرف أحد بعد المعتصم أخف منه إلى العدو ركابا، ولا أمد على بلد انسكابا، ولا يحط له سرج، ولا يحل له عن موكب طوق ورهج، وقد حكى ابن ظافر في سياسة الملوك أنه كان لا يبرز إلا مخفا، ولا [ص ١٥٨] يستصحب ثقلا ولا خفا، وقرر النوروز «١» ، وأقر عليه رزق الجند المفروز، وتبعه عليه من بعده من الخلفاء ووفوه حسابه، وما قدروا على الوفاء، وكان غاية في الحزم والعزم، حكى شارح العبدونية قال: لم تزل الأتراك مذ مات الواثق يتحكمون عليهم في