وتصفي هواءهم ثم تنصرف عنهم وقد تصفى، وتهبّ عليهم رياح لطيفة، ترسلها عليهم الشمس آخر النهار، ثم يتبعها طلوع الشمس في أول النهار الثاني وحال (ص ٣٣) خروج الشمس عنهم حال دخول الهواء إليهم فهي صحيحة لذلك، والمدن المغربية لا توافيها الشمس إلى حين تنكب، وكما توافيها تأخذ في القصد عنها، لا في القرب إليها، فلا تلطّف هواءها، ولا تخففه، بل تتركه رطبا غليظا، وإن أرسلت رياحا إليهم أرسلتها ردية «١» ، وأرسلتها ليلا، فتكون أحكامها أحكام البلاد الرطبة المزاج، الغليظة المعتدلة الحرارة، ولولا ما يعرض من كثافة الهواء لكانت تشبه طباع الربيع، لكنها تقصر عن صحة هواء البلاد المشرقية قصورا كثيرا، فلا يجب أن يلتفت إلى قول من قال إن قوة هذه البلاد قوة الربيع قولا مطلقا، بل إنها بالقياس إلى البلاد التي في الأغوار جيدة، ومن المعنى المذموم أن الشمس لا توافيهم إلا وهي مستولية على تسخين الإقليم لعلوها، فتطلع عليهم لذلك دفعة بعد برد الليل، والرطوبة أمزجة هوائهم تكون أصواتهم باحة، وخصوصا في الخريف، وتكثر في بلادهم النوازل. انتهى كلام ابن سينا.
وقد ذكرنا في الفصل المتقدم ما ذكره ابن سعيد من أن المشرق أتمّ وأعمد، وأن الجزائر بالبحر الهندي أعظم وأكبر، وبيّنا السبب في اتساع الشرق بما اقتطعه البحر الشامي من أجل الأقاليم المعمورة، كالثالث والرابع والخامس، الواقع فيها معظم العمارة ووقوع البحر بالشرق في جنوبه حيث لا مبالاة به من الأول والثاني، فتعطل في المغرب المعمور، ولم يتعطل في الشرق إلا العاطل، بل زاد موقع البحر هناك بالشرق عمارة للشرق وحسب ما قدمنا القول فيه لأنه رطّب هواءه، وأيفع ماءه وزاده عمارة، وزانه نضارة، وأوجب به العمارة، وراء خط الاستواء، وعمّر الجزائر فيما هو داخل (ص ٣٤) الإقليمين اللذين أخذ فيهما ما