الشّتى على ما ضبطه كان خارجا عن النقل المسموع في تلك اللغة عن صريح أهلها. وكأن المتكلم به قد تكلّم بخطإ أو لحن؛ إما منه، وإمّا مما طرأ على أهل تلك اللغة بمداخلة من ليس منهم. كما داخل العرب بمداخلة النبط وفارس والروم؛ حتى كان ينكر على رجال من صليبة الترك، ورجال من صليبة الفرس في كلمات تقع على غير الصحيح في أصول لغاتهم.
ورأيت رجالا منهم ممن عرف معرفته يتحاكمون إليه فيما شجر بينهم في ذلك، ولقد أراني فيما صنّف في ذلك، فمنه: الإدراك في لغة الأتراك، ومنه: زهو الملك نحو الترك، ومنه: منطق الخرس في لسان الفرس، ومنه: جلاء الغبش في لسان الحبش، ومنه: المخبور في لغة الخمور، وهي لغة قديمة كانت لأهل دمياط، يتحدثون بها في قديم الزمان، فرأيت منها العجب، وعلمت بها أنه قد حكم على ألسنة العجم والعرب.
هذا ولم يكن رحمه الله يعرف هذه الألسنه معرفة يخيّل في ميدانها لسنه؛ وإنما كان قد أكثر التقصي عن كل لسان، والسؤال من أهل المعرفة عن مفردات كلمها اسماء وأفعالا وحروفا وتصريف الأفعال، وتركيب الكلم، ثم نزّلها على قواعد اللغة العربية، وأجراها عليها في مصطلح الترتيب بعد إتقان معرفة ما في تلك اللغة من صيغة الجمع والمثنى والمضاف والمضاف إليه، وغير ذلك؛ حتى ضبطه كلّ الضبط.
وكان يراني أتهلّل به بشرا وسرورا؛ باعتلاقي بسببه، وما يسّر لي من إدراك مثله والاستضاءة بقبسه. وكان لي من شكره حظّ علمه أهل عصري وحسدي عليه أهل مصري، ومنها: أنه لما أوقفني على هذه التأليفات الغرائب وأراني من بحره العجائب، أشار لتشريف قدري وتعريف نكري أن أكتب عليها ما يبلغ به الجاهل مبلغها، ومقدار النعمة التي سوّغها، ومدى الهمة التي حطّم بها أنوف هذه الصفات النوافر، وأبرز من ليل الأعجمية صباحها السافر فقيّدت في أسفارها ما سنح، وأعدت إليه ما منح، وأعدتها إليه إلّا منطق الخرس؛ فإن بعض الأصدقاء آثر الوقوف عليه، فأوقفته عليه، على أن يقضي منه أربه، ثم