وبعض حاشية الدار. وتربّص ابن حمدان الغفلة، فلما نصل الدجى الذي صبغه المغرب، ووضع حمله الليل المقرّب، وجنين الفجر قد كاد أن يرمي سقطا، وأنامل الصبح قد كادت تأتي على دراهم النجوم لقطا، وقد تثاءب المشرق وآن المغرب الذي تمطّى، وتمشّى نسيم السحر وتخطّى فاقتعد جمله وقبل السرى أمله، والحذر يستطيره، والخوف يدني منه جناح طائر يستعيره ودام سارحا في نهاره، وساربا في أنهاره؛ حتى إذا دميت في الأصل أخفاف مطيه الخفيّة، وطفيت جديدة النهار في عين شمسه الحميّة، نزل ليريح ويقيم جنب نضوه الطريح؛ فبينما هو قد ترك بقيته، ومسك الليل قدد رقيته أدركته بادرة الخيل وألقته جدا سهيل. وكان سبب رحيله أن أبا العباس عدل بالحجبة عنه، وكان يريدها ويحضّها، ولو قطعت أوداجه ووريدها، فحقدها عليه وأرقدها لديه. ثم إن أهل القصر أجمعوا على الصعود من الماء لاغتيال ابن المعتز، فلمّا رآهم أصحاب ابن المعتز أكبروهم، وقالوا: هذا رأي ابن حمدان، ولهذا تركنا وفرّ، وظنّوها من رأيه، فخرج ابن المعتز، ومعه محمد بن داود الوزير، وبين أيديهما غلام ينادي، يا معشر المسلمين، ادعوا لخليفتكم هذا السني البربهاري؛ إشارة إلى أنه على مذهب أهل السنّة، خلافا للمقتدر، وأهل بيته. والبربهاري، هو أبو الحسن ابن أبي القاسم البربهاري مقدّم الحنابلة؛ وكان لأهل السنّة وسائر العامة فيه رأي جميل. وكان ابن المعتز على مذهبه، ثم سار إلى الصحراء وهو يظنّ أن الجنود تتلاحق وراءه فلم يلتحق به أحد، ولا مدّ إلى بصره مدى خطوة، ولا ساعد يد، فهم مقصد شرّ من راء ليشدّ بها سلطانه، ويجتمع عليه فيها، فلمّا أخفقت أمانيه نزل عن دابته، وقطع أطماع إرادته، والتحق بابن الجصاص الجوهري، فاستجار بجواره واختفى في داره، فوشى به خادم لابن الجصاص صغير، فأمسكه المقتدر وسلّمه إلى مؤنس لأمر قد قدر، فأخرج إلى أهله في اليوم الثاني من خلافته قتيلا في كساء لا ثائر له إلا دموع النساء. فرحمه الله وغفر له وأكرم لديه في الجنة نزله. ورثاه علي بن محمد بن بسام بقوله:[البسيط]
لله درّك من ميت بمضيعة ... ناهيك في العلم والآداب والحسب
ما فيه لوّ ولا لولا فتنقصه ... وإنما أدركته حرفة الأدب