قال: ومتى وجد اللسان في جميع جهاته شيئا يقرعه ويصكّه، ولم يمرّ في هواء واسع المجال، وكان لسانه يملأ جوف فمه لم يضره سقوط أسنانه إلّا بالمقدار المغتفر. ويؤكده قول صاحب المنطق إن الطائر والسبع والبهيمة كلّما كان لسان الواحد منها أعرض كان أفصح وأجلى لما يلقن، ولما يسمع، نحو الببغاء والغداف وغراب البين. قال: ويدل على أن عظم اللسان نافع لمن سقط جميع أسنانه. قول كعب بن جعيل ليزيد بن معاوية حين أمره بهجاء الأنصار: أرادّني أنت في الكفر بعد الإيمان، ولكني سأدلك على غلام في الحي كأنّ لسانه لسان ثور، يعني الاخطل.
وفي الحديث: إن الله يبغض الرجل تخلّل بلسانه كما تخلل الباقرة الحلا بلسانها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لحسان: ما بقي من لسانك؟ فأخرج لسانه حتى قرع بطرفه طرف أرنبته، ثم قال: والله لو وضعته على صخر لفلقه، أو على شعر لحلقه وما يسرني به مقول من مغل رائق السمط، ثم قال بعد ذلك: وقد قال بعض جهابذة الألفاظ، ونقاد المعاني القائمة في صدور الناس، المتصورة في أذهانهم، المتلجلجة في نفوسهم، والمتصلة بخواطرهم، والجارية على أفكارهم، مستورة خفيّة، محجوبة مكتوبة، موجودة معدومة. ولا يعرف الإنسان ضمير صاحبه، ولا حاجة أخيه إلّا بغيره؛ وانما يحيي تلك المعاني استعمالهم لها وإخبارهم عنها؛ فبهذا يقرب من الفهم وينجلي للعقل، ويجعل الخفي ظاهرا والغائب حاضرا. والمجهول معروفا، والوحشي مألوفا. وعلى قدر وضوح الدلالة وصواب الإشارة يكون إظهار المعنى. وكلّما كانت الدلالة أوضح وأفصح كانت الإشارة أبين وأنور. والدلالة الظاهرة على المعنى الخفي هو البيان الناطق به القرآن. والله جلّ ثناؤه يمدحه ويدعوه إليه ويحث عليه. وتفاخرت العرب وتفاضلت العجم، وهو اسم لما كشف قناع المعنى وهتك الحجاب؛ حتى يفضي السامع إلى حقيقته كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جلس كان؛ لأن الغاية التي تجري إليها إنما هو الفهم والإفهام؛ فبأي شيء بلغت الإفهام وأوضحت المعنى فذلك هو البيان في ذلك الموضع، ثم اعلم أنّ حكم المعاني خلاف حكم الألفاظ؛ لأن المعاني مبسوطة إلى غير غاية، ممتدة إلى غير نهاية. وأسماء المعاني مقصورة