فرفعت كمّي لئلا تهلك الأجزاء، وخلّوني، ومشوا، فعصرت الجبّة، وتبعتهم، وتأذّيت بالبرد كثيرا، وكان الشيخ يؤذيني، ويضربني، وإذا جئت يقول: جاءنا اليوم الخبز الكثير، والفالوذج، وأكلنا وما خبّأنا لك وحشة عليك!. فطمع فيّ أصحابه، وقالوا: أنت فقيه، أيش تعمل معنا؟، فلما رآهم يؤذونني، غار علي، وقال: يا كلاب! لم تؤذونه؟ والله ما فيكم مثله!، وإنما أوذيه لأمتحنه، فأراه جبلا، لا يتحرك، ثم بعد مدة، قدم رجل من همذان، يقال له: يوسف الهمذاني، وكان يقال: إنه القطب، ونزل في رباط، فمشيت إليه، لم أره، وقيل لي: هو في السرداب، فنزلت إليه، فلما رآني قام، وأجلسني، ففرشني، وذكر لي جميع أحوالي، وحلّ لي المشكل عليّ، ثم قال لي: تكلّم على الناس. فقلت: يا سيدي! أنا رجل أعجميّ، قح، أخرس، أتكلّم على فصحاء بغداد؟!. فقال لي: أنت حفظت الفقه وأصوله، والخلاف والنحو، واللغة، وتفسير القرآن، لا يصلح لك أن تتكلم؟.
قال: وكنت أومر، وأنهى، في النوم واليقظة، وكان يغلب عليّ الكلام، ويزدحم على قلبي إن لم أتكلم به حتى أكاد أختنق، ولا أقدر أسكت، وكان يجلس عندي رجلان وثلاثة، ثم تسامع الناس بي، وازدحم الخلق عليّ، حتى صار يحضر مجلسي [نحو من]«٢» سبعين ألفا.
وقال: فتّشت الأعمال كلها فما وجدت فيها أفضل من إطعام الطعام، أودّ لو أن الدنيا بيدي فأطعمها الجياع، كفّي مثقوبة لا تضبط شيئا!. لو جاءني ألف دينار لم أبيّتها، وكان إذا جاءه أحد بذهب، يقول: ضعه تحت السجادة.
وقال:" أتمنى أن أكون في الصحارى والبراري كما كنت في الأول لا أرى الخلق ولا يروني".