ولا حشفة، فلم يكن له همّ إلا أن أنتظر آخر الليل، حتى طار غرابه، وجرد عن سيف النهار قرابه، وشرع الفجر ينفجر، والأفق بملاءة الصباح يعتجر، وبكر إلى دار الخلافة، والمعتصم قد انفتل عن المحراب، ولمح ابن أبي دواد فما استراب، فتقدم إليه، وقصّ عليه القصة، والمعتصم يسمع، وحدثه بما كادت له مقلته تدمع، وقال له: يا أمير المؤمنين، إني لم أجئك بتهمة في عمري سواها، ولا أتيت بمثلها ونفس وما سواها، ولو لم تكن إنقاذ وليّ من أوليائك وينجي بقاءه من حلوق أعدائك، لما فعلتها، ولا اجترأت على أمير المؤمنين وقلتها، فضحك أمير المؤمنين ضحك معجب بجميل صنعه، فعجل إلى عدم منعه، وقال له: قد أجزت ما قلت أيها القاضي وما فعلت، ثم بثّ رسله إلى الأفشين يأمره بإحضار أبي دلف، فما نشب أن أحضره، وسنّى إطلاقه، ثم لم يبرح ابن أبي دواد حتى أعاده إلى منزلته «١» ، وعاد الأفشين وأماته بعلته.
قال ابن خلكان:«٢» كان أبو دلف كريما سريا جوادا ممدحا شجاعا مقداما، ذا وقائع مشهورة، وصنائع مأثورة، أخذ عنه الأدباء الفضلاء، وله صنعة في الغناء، وصنّف عدة كتب في (البزاة والصيد) و (السلاح) و (النزه) و (سياسة الملوك) وغير ذلك، ومدحه أبو تمام الطائي بأحسن المدائح، وفيه يقول بكر بن النطاح:«٣»[الكامل]
يا طالبا للكيمياء وعلمه ... مدح ابن عيسى الكيمياء الأعظم