جبال فيها من برد، ولا ترى حينئذ إلا قتيلا، ولكن بالمثقل الذي لا يجب في مثله قود، فهي كافلة من تلك الأطيار بقبض نفوسها، منزلة لها من جو السماء على أم رؤوسها، فما كان إلا أن ابتدر أولئك الغلمان طلقا من الرمي، يأتي على اختيار المختار المنايا ذات أسماع وأبصار، وإذا عرض له السّرب لم يخش فوت خطأ ولا فوت قرار، فمن بين دراجة أدرجت في ثوب دمائها، وحمامة حمّ عليها نزع دمائها، ومن كروان فجع بينهم فراخه، وإوزة ودّت لو لجأت إلى الصائد ومكيد فخاخه، فلم يضرنا مع ذلك فقد المنتخب من الجوارح، وكان اليوم كيوم المحصب «١» من كثرة الذبائح، وشهدت في خلال هذا المنتزه من لطائف اللذات ما يغلو على مستامه، ولا يجيله خاطر المنى في أوهامه، وإذا تذكرته النفس أعاد آخر طعمه أوله، وقالت: ترى الدهر نام عنه أو أغفله، على أنه لا يستغرب مواتاة مثله لمثل هذا السلطان، الذي الأيام له عبيد، ولا تمضي إلا ما يريد، ومن أكرم نعم الله عليّ أن أصبحت من خدمه معدودا، وعلى خدمته محسودا فلهذه النعمة أن أمسكها إمساك الشكور، وأصاحبها مصاحبة الغيور، وقد كنت بالأمس أنذر لها نذورا، وأنا الآن واف بتلك النذور، والسلام.
ومنه قوله من كتاب كتبه في معنى كتاب فاضلي، كتبه إلى الظاهر يعزيه بوالده؛ وكان جرى حديث هذا الكتاب في بعض المجالس فاستحسن، وطلب الجماعة الحاضرون أن يعارض بمثله، فأملى هذا الكتاب عليهم، وكان المتوفى قد مات وقت الصباح:
كتب المملوك كتابه هذا في ساعة أفلت الشمس فيها عند الصباح، وذهبت بروح الدنيا التي ذهبت بذهابها كثير من الأرواح، وتلك ساعة ظلت بها