البوادي والحواضر، فياله ناعيا أصم الأسماع وأصماها، وأقذى العيون بل أعماها، وجرح القلوب فأدماها، وما أهمل سحب الجفون لكن أهملها وأهماها، وتبّا له من نغيص نغص الدنيا على أربابها، وإن كانت معشوقة محبوبة، وكره الحياة عند أصحابها مع أنها شهية مطلوبة، وكان الأولى بالمملوك أن يصرف عن ذكر الحادثة صفحا، ولا ينكأ بتجديده بالقرح قرحا، ولا يقصد لباب الجزع بعد انغلاقه فتحا، ولا يطلع التعزية ليلا وقد طلعت التسلية صبحا.
ومنه قوله:
وينهي ورود المثال الكريم، فوقف منه على اللفظ البليغ والمعنى البديع، وعلم عند تدبره أنه فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ
«٢» وتصور أن كاتبه قد جاوز البحر فأتحفه بجواهره، بل جاور الملك فأسعفه بعساكره؛ وصدق تصوره كون ألفاظه جواهر وكنانة كتائب، وعجبت لخروج الدر من العذب حتى تذكرت أن عادة البحر العجائب؛ وأما ما أمر به من النيابة عنه في خدمة مولانا الوزير، فقد ناب عنها لكن مناب تراب التيمم عن الماء الطهور، وأنهى مشافهاته، وأدى من جملها في الساعة الواحدة ما لا يفصل في عدة من الشهور؛ وأما أحوال المملوك، فإنه من صدقات الديوان ما يعدم سوى النظر إلى طلعة مولانا التي هي عديمة النظير، ولا يشتهي غير الفوز بخدمته، وذلك هو الفوز الكبير؛ وكل هذا برفع محل مولانا لمحلي، ولأجله لا لأجلي:[الطويل]
أضمّ قضيب البان من أجل قدها ... والثم ثغر الكاس أحسبه فاها