واعلم أن هذا المذكور إنما هو في بعض الجبال والأماكن المكتسبة ما ذكرنا، أما الجبال الأصول التي قال الله تعالى في حقها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ
فتلك أصول وقواعد لا تتغير للحكمة المودعة فيها، التي لولاها لكانت الأرض متحركة.
وقال بعضهم: لولا الجبال لكان وجه الأرض مستديرا، وكان ماء البحار يغطيها من جميع جهاتها، وأحاط بها الهواء بالماء، وبطلت الحكمة في المعادن والنبات والحيوان.
وقال بعضهم: الجبال سبب لوجود الأنهار السائحة على وجه الأرض الذي هو مادة حياة النبات والحيوان، وذلك لأن سبب هذا الماء هو انعقاد البخار في الجو سحابا. والجبال الشامخة الطوال الأصول على بسيط الأرض شرقا وغربا ويمينا وشمالا تمنع الرياح أن تسوق البخار، بل يجعلها منحصرة بينها، حتى يحلقها برد الشتاء، فيصير مطرا وثلجا، فلو فرضت الجبال غير مرتفعة عن وجه الأرض لكانت الأرض كرة لا غور فيها ولا نتوء، فالبخار المرتفع لا يبقى في الجو «١» منحصرا إلى وقت يضربه البرد، بل يتحلل ويستحيل هواء، فلا يجري الماء على وجه الأرض إلا قدر ما ينزل من المطر، ثم تنشفه الأرض، فكان يعرض من ذلك أن النبات والحيوان يعدم لعدم الماء في الصيف عند شدة الحاجة إليه، كما في البوادي البعيدة والمغارات المعطشة، فاقتضى التدبير الإلهي وجود الجبال لحصر البخار المرتفع من الأرض بين أغوارها، ويمنعه من السيلان، ويمنع الرياح أن تسوقها كما يمنع السّكر «٢» الماء فيبقى فيها محفوظا إلى أن يلحقه البرد زمان