للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإلى داعي الشرِّ مرةً، ليتم الابتلاء في دار الامتحان، وتظهر حكمة الثواب والعقاب في دار الجزاء. وكلاهما من الحقِّ الذي خلق الله السماوات والأرض به ومن أجله، وهما مقتضى ملكِ الربِّ وحمدِه، فلا بد أن يظهر ملكُه وحمدُه فيهما، كما ظهر في خلق السماوات والأرض وما بينهما. وأوجب ذلك في حكمته ورحمته وعدله، بحكم إيجابه على نفسه، أن أرسل رُسُلَه، وأنزل كتبَه، وشرَع شرائعه، ليتمَّ ما اقتضته حكمته في خلقه وأمره. وأقام سوقَ الجهاد لما حصل من المعاداة والمنافرة بين هذه الأخلاق والأعمال والإرادات، كما حصل بين من قامت به.

فلم يكن بدٌّ من حصول مقتضى الطباع البشرية وما قارنها (١) من [٣٠٥/أ] الأسباب، من التنافس، والتحاسد، والانقياد لدواعي الشهوة والغضب، وتعدِّي ما حُدَّ له، والتقصير عن كثير مما تُعُبِّدَ به. وسهَّل ذلك عليها اغترارُها بموارد المعصية مع الإعراض من مصادرها، وإيثارُها ما تتعجَّلُه من يسير اللذة في دنياها على ما تتأجَّله من عظيم اللذة في أخراها، ونزولُها على الحاضر (٢) المشاهَد، وتجافيها عن الغائب الموعود. وذلك موجَب ما جُبِلت عليه من جهلها وظلمها. فاقتضت أسماءُ الربِّ الحسنى وصفاته العُلَى (٣)، وحكمته البالغة، ونعمته السابغة، ورحمته الشاملة، وجوده الواسع= أن لا يضرب عن عباده الذكر صفحًا، وأن لا يتركهم سُدًى، ولا يخلِّيهم ودواعيَ نفوسهم وطبائعهم؛ بل ركَّب في فِطَرهم وعقولهم معرفةَ الخير والشر، والنافع والضارِّ،


(١) ح: «قاربها»، تصحيف.
(٢) ح، ف: «الخاطر»، تصحيف.
(٣) ت: «العليا»، وكذا في النسخ المطبوعة.