للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فهذا أحسنُ حكم يُفصَل به بينهما في الدنيا، وليس بعده أعدل منه، ولا أحكم، ولا أصلح. ولو جُمِعت عقولُ العالمين لم يهتدوا إليه، فتبارك من أبان ربوبيته ووحدانيته وحكمته وعلمه في شرعه وخلقه.

فصل

وأما قوله: «وجوَّز للمسافر المترفِّه في سفره رخصةَ الفطر والقصر، دون المقيم المجهود الذي هو في غاية المشقة»، فلا ريب أن الفطر والقصر يختص بالمسافر، ولا يفطر المقيم إلا لمرض. وهذا من كمال حكمة الشارع، فإن السفر (١) قطعة من العذاب (٢)، وهو في نفسه مشقة وجهد. ولو كان المسافر من أرفَهِ الناس، فإنه في مشقة وجهد بحسبه. [٣١٧/أ] فكان من رحمة الله بعباده وبرِّه بهم أن خفَّف عنهم شطر الصلاة، واكتفى منهم بالشطر. وخفَّف عنهم أداء فرض الصوم في السفر، واكتفى منهم بأدائه في الحضر؛ كما شرَع مثل ذلك في حقِّ المريض والحائض. فلم يفوِّت عليهم مصلحة العبادة بإسقاطها في السفر جملةً، ولم يُلزِمهم بها في السفر كإلزامهم في الحضر.

وأما الإقامة فلا مُوجِبَ لإسقاط بعض الواجب فيها ولا تأخيره، وما يعرض فيها من المشقة والشغل فأمرٌ لا ينضبط ولا ينحصر. فلو جاز لكلِّ مشغول وكلِّ مشقوق عليه الترخُّصُ ضاع الواجبُ واضمحلَّ بالكلية. وإن جُوِّز للبعض دون البعض لم ينضبط، فإنه لا وصفَ يضبِط ما تجوز معه الرخصة وما لا تجوز، بخلاف السفر؛ على أن المشقة قد عُلِّق بها من


(١) في النسخ المطبوعة بعده زيادة: «في نفسه».
(٢) كما جاء في حديث أبي هريرة، أخرجه البخاري (١٨٠٤) ومسلم (١٩٢٧).