للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ووصفًا وقدرًا لذهبت بهم الآراء كلَّ مذهب، وتشعبت بهم الطرقُ كلَّ مشعَب، ولعظم الاختلاف واشتدَّ الخطب. فكفاهم أحكم الحاكمين وأرحمُ الراحمين (١) مؤنةَ ذلك، وأزال عنهم كلفته، وتولَّى بحكمته وعلمه ورحمته تقديرَه نوعًا وقدرًا، ورتَّب على كلِّ جنايةٍ ما يناسبها من العقوبة ويليق بها من النَّكال.

ثم بلغ من سعة رحمته وجُوده أن جعل تلك [٣٠٦/ب] العقوباتِ كفاراتٍ لأهلها، وطُهْرَةً تزيل عنهم المؤاخذة بالجنايات إذا قدِموا عليه، ولا سيما إذا كان منهم بعدها التوبة النصوح والإنابة. فرحمهم بهذه العقوبات أنواعًا من الرحمة في الدنيا والآخرة، وجعل هذه العقوبات دائرةً على ستة أصول: قتل، وقطع، وجلد، ونفي، وتغريم مال، وتعزير.

فأما القتل، فجعله عقوبة أعظم الجنايات، كالجناية على الأنفس، وكانت (٢) عقوبته من جنسه؛ وكالجناية على الدين بالطعن فيه والارتداد عنه، وهذه الجنايةُ أولى بالقتل وكفِّ عدوان الجاني عليه من كلِّ عقوبة، إذ بقاؤه بين أظهُر عباده مفسدة لهم، ولا خير يرجى في بقائه ولا مصلحة. فإذا حبَس شرَّه، وأمسك لسانه، وكفَّ أذاه، والتزم الذل والصغارَ وجريانَ أحكام الله ورسوله عليه وأداءَ الجزية= لم يكن في بقائه بين أظهُرِ المسلمين ضررٌ عليهم، والدنيا بلاغ ومتاع إلى حين. وجعله أيضًا عقوبة الجناية على الفروج المحرَّمة، لما فيها من المفاسد العظيمة، واختلاط الأنساب، والفساد العامّ.


(١) ع: «أرحم الراحمين وأحكم الحاكمين»، وكذا في النسخ المطبوعة.
(٢) في النسخ المطبوعة: «فكانت».