للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وكذلك الذين أبطلوا المزارعة والمساقاة ظنُّوا أنهما إجارة بعوض مجهول فأبطلوهما. وبعضهم صحَّح منهما ما تدعو إليه الحاجة كالمساقاة على الشجر لعدم إمكان إجارتها بخلاف الأرض فإنه يمكن إجارتها، وجوَّزوا من المزارعة ما يكون تبعًا للمساقاة إما مطلقًا وإما إذا كان البياض الثلث. وهذا كلُّه بناء على أن مقتضى الدليل بطلان المزارعة، وإنما جُوِّزت للحاجة.

ومن أعطى النظرَ حقَّه علِم أن المزارعة أبعد عن الظلم والغَرر (١) من الإجارة بأجرة مسمَّاة [٢٣٧/أ] مضمونة في الذمة، فإن المستأجر إنما يقصد الانتفاع بالزرع النابت في الأرض، فإذا لزمته الأجرة، ومقصوده من الزرع قد يحصل وقد لا يحصل، كان في هذا حصولُ أحد المعاوضين (٢) على مقصوده دون الآخر. فأحدهما غانم ولا بد، والآخر متردِّد بين الغُنم والغُرم (٣). وأما المزارعة فإن حصل الزرع اشتركا فيه، وإن لم يحصل شيء اشتركا في الحرمان، فلا يختص أحدهما بحصول مقصوده دون الآخر، فهذا أقرب إلى العدل وأبعد عن الظلم والغرر من الإجارة.

والأصل في العقود كلِّها إنما هو: العدل الذي بُعثت به الرسل وأُنزلت به الكتب. قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: ٢٥]. والشارع نهى عن الربا لما


(١) «مجموع الفتاوى»: «والقمار».
(٢) ف: «المتعاوضين»، وكذا أصلح في ح. وكذا في «مجموع الفتاوى».
(٣) ع: «المغنم والمغرم»، وكذا في النسخ المطبوعة.