للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقد كانت الصحابة أفهمَ الأمةِ لمراد نبيها وأتبعَ له، وإنما كانوا يُدَنْدِنون حول معرفة مراده ومقصوده. ولم يكن أحد منهم يظهر له مرادُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم يعدل عنه إلى غيره البتّة.

والعلم بمراد المتكلم يُعرَف تارةً من عموم لفظه، وتارةً من عموم علَّته. والحوالة على الأول أوضح لأرباب الألفاظ، وعلى الثاني أوضح لأرباب المعاني والفهم والتدبر. وقد يعرض لكلٍّ من الفريقين ما يُخِلُّ بمعرفة مراد المتكلم، فيعرض لأرباب الألفاظ التقصيرُ بها عن عمومها وهضمُها تارةً، وتحميلُها فوق ما أريد بها تارةً. ويعرض لأرباب المعاني فيها نظير ما يعرض لأرباب الألفاظ. فهذه أربع آفات هي منشأ غلط الفريقين. ونحن نذكر بعض الأمثلة لذلك ليعتبر به غيره، فنقول:

قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ [١٣١/ب] رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} (١) [المائدة: ٩٠]. فلفظ "الخمر" عامٌّ في كلِّ مسكر، فإخراجُ بعض الأشربة المسكِرة عن شمول اسم الخمر لها تقصيرٌ به وهضمٌ لعمومه، بل الحقُّ ما قاله صاحب الشرع: "كلُّ مسكِر خمرٌ" (٢)، وإخراجُ بعض أنواع المَيْسِر عن شمول اسمه لها تقصيرٌ أيضًا به، وهضمٌ لمعناه. فما الذي جعل النَّرْدَ الخالي عن العوض من الميسر وأخرج (٣) الشطرنج عنه؟ مع أنه من أظهر أنواع الميسر، كما قال غير واحد من السلف: إنه


(١) في ع، ف أكملت الآية، وكذا في النسخ المطبوعة.
(٢) أخرجه مسلم (٢٠٠٣) من حديث ابن عمر.
(٣) ما عدا س: "إخراج"، ثم أصلح بطمس الألف أو الضرب عليها في ح، ع، ف.