للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والصواب: أنّ كلَّ ما بيَّن الحقَّ فهو بينة (١). ولم يعطِّل الله ولا رسوله حقًّا بعدما تبيَّن بطريق من الطرق أصلًا، بل حكمُ الله ورسوله الذي لا حكم له سواه أنه متى ظهر الحق ووضَح بأيِّ طريق كان وجب تنفيذه ونصره، وحَرُم تعطيله وإبطاله. وهذا باب يطول استقصاؤه، ويكفي المستبصرَ التنبيهُ عليه. وإذا فُهِم هذا في جانب اللفظ فُهِم نظيرُه في جانب المعنى سواء.

وأصحاب الرأي والقياس حمَّلوا معاني النصوص فوق ما حمَّلها الشارع، وأصحاب الألفاظ والظواهر قصَّروا بمعانيها عن مراده. فأولئك قالوا: إذا وقعت قطرة من دم في البحر فالقياس أنه ينجس، ونجَّسوا بها الماء الكثير مع أنه لم يتغير منه شيء البتة بتلك القطرة. وهؤلاء قالوا: إذا بال جَرَّةً من بول وصبَّها في الماء لم تُنجِّسه، وإذا بال في الماء نفسِه ولو أدنى شيء نجَّسه.

ونجَّس أصحابُ الرأي والمقاييس القناطيرَ المقنطرةَ، ولو كانت ألف ألف قنطار، من سَمْن أو زيت أو شَيْرج، بمثل رأسِ الإبرة من البول والدم، والشعرةِ الواحدة من الكلب والخنزير عند من ينجِّس شعرَهما. وأصحاب الظواهر والألفاظ [١٣٣/أ] عندهم لو وقع الكلب والخنزير بكماله أو أي ميتة كانت في أيِّ ذائب كان من زيت أو شَيرج أو خلّ أو دِبس أو وَدَك غير السَّمْن ألقيت الميتة فقط، وكان ذلك المائع حلالًا طاهرًا كلّه، فإن وقع ما عدا الفأرة في السَّمْن من كلب أو خنزير أو أي نجاسة كانت فهو طاهر حلال ما لم يتغير.


(١) انظر ما سبق من تفسير "البينة" في شرح قول عمر: "البينة على المدعي".