للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قيل: هذا من أدلّ الدلائل على اعتبار القرائن والأخذ بشواهد الأحوال في التُّهَم، وهو يُشبِه إقامةَ الحدود بالرائحة والقيء كما اتفق عليه الصحابة، وإقامةَ حدّ الزنا بالحبل كما نصَّ عليه عمر (١)، وذهب إليه فقهاء أهل المدينة وأحمد في ظاهر مذهبه، وكذلك الصحيح أنه يُقام الحدّ على المتَّهم بالسرقة إذا وُجِد المسروق عنده. فهذا الرجل لما أُدرِك وهو يشتدُّ هربًا وقالت المرأة: هذا هو الذي فعل بي، وقد اعترف بأنه دنا منها وأتى إليها وادّعى أنه كان مُغِيثًا لا مُرِيبًا، ولم يرَ أولئك الجماعة غيره، كان في هذا أظهرُ الأدلة على أنه صاحبها، وكان الظن المستفاد من ذلك لا يَقْصُر عن الظن المستفاد من شهادة البينة، واحتمال الغلط أو عداوة الشهود كاحتمال الغلط وعداوة المرأة ههنا، بل ظنُّ عداوة المرأة في هذا الموضع في غاية الاستبعاد؛ فنهاية الأمر أن هذا لَوثٌ ظاهر لا يُستبعد ثبوتُ [٣/ب] الحد بمثله شرعًا، كما يُقتل في القسامة باللَّوث الذي لعله دون هذا في كثير من المواضع.

فهذا الحكم من أحسن الأحكام وأجراها على قواعد الشرع، والأحكام الظاهرة تابعة للأدلة الظاهرة من البينات والأقارير وشواهد الأحوال، وكونُها في نفس الأمر قد تقع غيرَ مطابقةٍ (٢) أمرٌ لا يقدح في كونها طرقًا وأسبابًا للأحكام، والبينة لم تكن موجِبةً بذاتها للحد، وإنما ارتباط الحد بها ارتباط المدلول بدليله، فإن كان هناك دليل يُقاوِمها أو أقوى منها لم يُلغِه الشارع، وظهور الأمر بخلافه لا يقدح في كونه دليلًا كالبينة والإقرار.


(١) رواه البخاري (٦٨٢٩) ومسلم (١٦٩١) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -.
(٢) بعدها في د: «أو لا ينضبط»، وعليها علامة الحذف.