للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فكان من بعض حكمته سبحانه ورحمته: أن شرَع العقوبات في الجنايات الواقعة بين الناس بعضهم (١) على بعض، في الرؤوس والأبدان والأعراض والأموال، كالقتل والجراح (٢) والقذف والسرقة. فأحكم سبحانه وجوهَ الزجر الرادعةَ عن هذه الجنايات غاية الإحكام، وشرعها على أكمل الوجوه المتضمِّنة لمصلحة الردع والزجر، مع عدم المجاوزة لما يستحقه الجاني من الردع. فلم يشرع في الكذب قطع اللسان ولا القتل، ولا في الزنا الخصاء، ولا في السرقة إعدام [٣٠٦/أ] النفس. وإنما شرَع لهم في ذلك ما هو موجَب أسمائه وصفاته، من حكمته ورحمته ولطفه وإحسانه وعدله، لتزول النوائب، وتنقطع الأطماع عن التظالم والعدوان، ويقتنع كلُّ إنسان بما آتاه مالكه وخالقه، فلا يطمع في استلاب غيره حقَّه.

ومعلوم أن لهذه الجنايات الأربع مراتب متباينة في القلة والكثرة، ودرجات متفاوتة في شدة الضرر وخفته، كتفاوت سائر المعاصي في الكبر والصغر وما بين ذلك. ومن المعلوم أن النظرة المحرَّمة لا يصلح إلحاقها في العقوبة بعقوبة مرتكب الفاحشة، ولا الخدشة بالعود بالضربة بالسيف، ولا الشتم الخفيف بالقذف بالزنا والقدح في الأنساب، ولا سرقة اللقمة والفَلْس بسرقة المال الخطير العظيم. فلما تفاوتت مراتب الجنايات لم يكن بد من تفاوت مراتب العقوبات. وكان من المعلوم أن الناس لو وُكِلوا إلى عقولهم في معرفة ذلك وترتيب كلِّ عقوبة على ما يناسبها من الجناية جنسًا


(١) أثبت في المطبوع: «من بعضهم» بزيادة «من»!
(٢) أثبت في المطبوع: «الجرح».