للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أعلم ــ إنما أراد به لولا حكم الله بينهما باللعان لكان شَبَهُ الولد بمن رُمِيتْ به يقتضي حكمًا آخر غيره، ولكن حكم الله باللعان ألغى حكم هذا الشبه، فإنهما دليلان، وأحدهما أقوى من الآخر؛ فكان العمل به واجبًا. وهذا كما لو تعارض دليل الفراش ودليل الشبه، فإنا نُعمِل دليل الفراش ولا نلتفت إلى الشبه بالنص والإجماع، فأين في هذا ما يُبطِل المقاصد والنيات والقرائن التي لا معارضَ لها؟ وهل يلزم من بطلان الحكم بقرينة قد عارضها ما هو أقوى منها بطلانُ الحكم بجميع القرائن؟ وسيأتي دلالة الكتاب والسنة وأقوال الصحابة وجمهور الأئمة على العمل بالقرائن واعتبارها في الأحكام. وأما إنفاذه للحكم وهو يعلم أن أحدهما كاذب فليس في الممكن شرعًا غيرُ هذا، وهذا شأن عامة المتداعين، لا بدَّ أن يكون أحدهما مُحِقٌّ والآخر مُبطِل (١)، وينفذ حكم الله عليهما تارةً بإثبات حق المحق وإبطال باطل المبطل، وتارةً بغير ذلك إذا لم يكن مع المحقّ دليل.

وأما حديث ركانة لما طلّق امرأته البتةَ وأحلفه النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه إنما أراد واحدةً (٢)، فمن أعظم الأدلة على صحة هذه القاعدة، وأن الاعتبار في العقود بنيات أصحابها ومقاصدهم وإن خالفت ظواهرَ ألفاظهم؛ فإن لفظ البتة يقتضي أنها قد بتَّتْ منه وانقطع التواصل الذي كان بينهما بالنكاح، وأنه لم يبقَ له عليها رجعة، بل بانت منه البتةَ كما يدل عليه لفظ البتة لغةً وعرفًا، ومع هذا فردَّها عليه، وقَبِلَ قوله أنها واحدة مع مخالفة الظاهر اعتمادًا على قصده ونيته، فلولا اعتبار القصود في العقود لما نفعه قصده الذي يخالف


(١) كذا في النسختين «محق» و «مبطل» مرفوعان. وفي المطبوع بالنصب.
(٢) تقدم تخريجه.