للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وإذا كان المطلوب في الحادثة إنما هو ظنٌّ راجح، ولو استند إلى استصحابٍ أو قياس علةٍ أو دلالةٍ أو شَبَهٍ أو عمومٍ مخصوص أو محفوظٍ مطلق أو واردٍ على سبب؛ فلا شك أن الظنَّ الذي يحصل لنا بقول الصحابي الذي لم يُخالَف أرجحُ من كثير من الظنون المستندة إلى هذه الأمور أو أكثرها، وحصولُ الظن الغالب في القلب ضروريٌّ لحصول (١) الأمور الوجدانية، ولا يخفى على العالم أمثلة ذلك.

الوجه الثالث والأربعون: أن الصحابي إذا قال قولًا أو حكم بحكمٍ أو أفتى بفُتيا فله مداركُ ينفرد بها عنّا، ومداركُ نشاركه فيها، فأما ما يختصّ به فيجوز أن يكون سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - شِفاهًا أو من صحابي آخر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن ما انفردوا به من العلم عنّا أكثرُ من أن يُحاط به، فلم يروِ كلٌّ منهم كلَّ ما سمع، وأين ما سمعه الصديق والفاروق وغيرهما من كبار الصحابة إلى ما رووه؟ فلم يروِ عنه صدِّيق الأمة مائةَ حديث، وهو لم يغِبْ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في شيء من مشاهده، بل صحبه من حين بُعِث بل قبل المبعث إلى أن توفي، وكان أعلم الأمة به - صلى الله عليه وسلم - وبقوله وفعله وهَدْيه وسيرته. وكذلك جِلَّة الصحابة روايتُهم قليلة جدًّا بالنسبة إلى ما سمعوه من نبيهم وشاهدوه، ولو رووا كلَّ ما سمعوه وشاهدوه لزاد على رواية أبي هريرة أضعافًا مضاعفًا (٢)، فإنه إنما صحبه نحو أربع سنين، وقد روى عنه الكثير. فقول القائل «لو كان عند الصحابي في هذه الواقعة شيء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لذكره» قولُ من لم يعرف سيرة القوم وأحوالهم، فإنهم كانوا يهابون الرواية عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -


(١) في المطبوع: «كحصول» خلاف النسخ.
(٢) كذا في النسخ. وفي المطبوع: «مضاعفة».