للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لم يختصَّ لفظُ "البيِّنة" بالشاهدين، بل ولا استُعمِل في الكتاب فيهما (١) البتة.

إذا عُرِف هذا، فقولُ النبي - صلى الله عليه وسلم - للمدَّعي: "ألك بينة؟ " وقول عمر: "البينة على المدَّعي" ــ وإن كان هذا قد روي مرفوعًا (٢) ــ المراد به: ألكَ (٣) ما يبيِّن الحقَّ من شهود أو دلالة. فإنَّ الشارع في جميع المواضع يقصد ظهورَ الحقِّ بما يمكن ظهوره به من البينات التي هي أدلّة عليه وشواهد له. ولا يرُدُّ حقًّا قد ظهر بدليله أبدًا، فيضيِّعَ حقوقَ الله وعبادِه ويعطِّلَها. ولا يقف ظهورَ الحقِّ على أمر معيَّن لا فائدة في تخصيصه به، مع مساواة غيره في ظهور الحق، أو رجحانه عليه ترجيحًا لا يمكن جحدُه ودفعُه؛ كترجيح شاهد الحال على مجرَّد اليد في صورة مَن على رأسه عمامة وبيده عمامة، وآخر خلفه مكشوف الرأس يعدو إثرَه، ولا عادة له بكشف رأسه. فبيِّنة الحال ودلالته هنا تفيد من ظهور صدقِ المدَّعي أضعافَ ما يفيده مجرَّدُ اليد عند كلِّ أحد (٤). فالشارع لا يُهمِل مثل هذه البينة والدلالة، ويُضيع حقًّا يعلم كلُّ


(١) في النسخ: "فيها"، والتصحيح من النسخ المطبوعة.
(٢) رواه الترمذي في "الجامع" (١٣٤١) من حديث عبد الله بن عمرو مرفوعا، وضعّفه بمحمد بن عبيدالله العرزمي. والعرزمي هذا واهٍ متروك. ورواه البيهقي في "السنن الكبير" (١٠/ ٢٥٢) من حديث ابن عباس، لكن جملة "البيّنة على المدّعي" مُدرجة في الحديث، دخل على بعض رُواته حديث في حديث. ويُنظر: "معرفة السنن والآثار" للبيهقي (٧/ ٤٥٥).
(٣) ع: "كلّ" موضع "ألك". وكذا في المطبوع!
(٤) وانظر هذا المثال في "الطرق الحكمية" (١/ ١٣) و"إغاثة اللهفان" (٢/ ٧٥٧) و"زاد المعاد" (٣/ ١٣٣).