للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثم في هذه الأمثال من الأسرار البديعة ما يناسب سياق السورة. فإنها سيقت في ذكر أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتحذير من تظاهُرهنَّ عليه، وأنهن إن لم يُطِعن الله ورسوله ويُرِدن الدار الآخرة لم ينفعهن اتصالُهن برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كما لم ينفع امرأةَ نوحٍ ولوطٍ اتصالُهما بهما. ولهذا إنما ضرب في هذه السورة مثل اتصال النكاح دون القرابة.

قال يحيى بن سلام (١): ضرب الله المثل الأول يحذِّر عائشة وحفصة، ثم ضرب لهما المثل الثاني يحرِّضُهما على التمسُّك بالطاعة.

وفي ضرب المثل للمؤمنين بمريم أيضًا اعتبار آخر، وهو أنها لم يضُرَّها عند الله شيئًا قذفُ أعداء الله اليهود لها، ونسبتُهم إياها وابنها إلى ما برَّأهما الله عنه، مع كونها الصدِّيقة الكبرى المصطفاة على نساء العالمين؛ فلا يضرُّ الرجلَ الصالحَ قدح الفجّار والفسّاق فيه.

وفي هذا تسليةٌ لعائشة أم المؤمنين إن كانت السورة نزلت بعد قصة الإفك، وتوطينُ نفسها على ما قال فيها الكاذبون إن كانت قبلها؛ كما في ذكر التمثيل بامرأة نوح ولوط [١١٢/ب] تحذيرٌ لها ولحفصة مما اعتمدتاه في حقِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -. فتضمَّنت هذه الأمثال التحذير لهن والتخويف، والتحريض لهن على الطاعة والتوحيد، والتسلية وتوطين النفس لمن أوذي منهن وكُذِب عليه. وأسرارُ التنزيل فوق هذا وأجلُّ منه، ولا سيما أسرار الأمثال التي لا يعقلها إلا العالمون.


(١) انظر مختصر تفسيره لابن أبي زمنين (٥/ ١٠ - ١١)، والمصنف صادر عن "زاد المسير" (٤/ ٣١٢).