للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقوةَ النطق في اللسان والشفتين، وقوةَ البطش في اليد، وقوةَ المشي في الرجل. وخصَّ كلَّ حيوان وغيره بما يليق به ويحسن أن يعطاه من أعضائه وهيئاته وصفاته وقدره. فشَمِل إتقانُه وإحكامُه لكلِّ ما شَمِله خلقُه، كما قال تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل: ٨٨]. وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان، وأحكمه غاية الإحكام، فلَأن يكون أمرُه على غاية من الإتقان والإحكام أولى وأحرى. ومن لم يعرف ذلك مفصَّلًا لم يسعه أن ينكره مجملًا، ولا يكون جهلُه بحكمة الله في خلقه وأمره وإتقانه كذلك وصدورِه عن محض العلم والحكمة مسوِّغًا له إنكارَه في نفس الأمر.

وسبحان الله! ما أعظم ظلم الإنسان وجهله! فإنه لو اعترض على أيِّ صاحب صناعة كانت مما تقصر عنها معرفته وإدراكه على ذلك، وسأله عما اختصَّت به صناعته من الأسباب والآلات والأفعال والمقادير، وكيف كان كلُّ شيء من ذلك على الوجه الذي هو عليه، لا أكبر ولا أصغر ولا [٣١٠/ب] على شكل غير ذلك= لَسَخِرَ منه، ولهزِئَ (١) به، وعجِبَ من سُخْفِ عقله وقلةِ معرفته. هذا مع تهيُّئِه لمشاركتِه له في صناعته، ووصولِه فيها إلى ما وصل إليه، والزيادة عليه والاستدراك عليه فيها. هذا مع أن صاحبَ تلك الصناعة غيرُ مدفوع عن العجز والقصور وعدم الإحاطة والجهل، بل ذلك عنده عتيد حاضر؛ ثم لا يسعه إلا التسليم له، والاعتراف بحكمته، وإقراره بجهله، وعجزه عما وصل إليه من ذلك. فهلَّا وسِعَه ذلك مع أحكم الحاكمين، وأعلم العالمين، ومَن أتقن كلَّ شيء، فأحكمَه وأوقعَه على وَفْقِ الحكمة والمصلحة؟


(١) في النسخ المطبوعة: «يسخر منه ويهزأ»، تصحيف.