للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فهذا مما تغيَّرت به الفتوى لتغيُّر الزمان، وعلِم الصحابة - رضي الله عنهم - حسنَ سياسة عمر وتأديبه لرعيته في ذلك، فوافقوه على ما ألزم به، وصرَّحوا لمن استفتاهم بذلك، فقال عبد الله بن مسعود: من أتى الأمرَ على وجهه فقد بُيِّن له، ومن لَبَس على نفسه جعلنا عليه لَبْسَه، والله لا تَلْبِسون على أنفسكم ونتحمَّلُه عنكم، هو كما تقولون (١).

فلو كان وقوع الثلاث ثلاثًا في كتاب الله وسنة رسوله لكان المطلِّق قد أتى الأمرَ على وجهه، ولما كان قد لَبَس على نفسه، ولما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن فعل ذلك: «أيُلعَبُ بكتاب الله وأنا بين أظهُرِكم؟» (٢)، ولَمَا توقَّف عبد الله بن الزبير في الإيقاع وقال للسائل: إن هذا الأمر ما لنا فيه قول، فاذهبْ إلى ابن عباس وأبي هريرة. فلما جاء إليهما قال ابن عباس لأبي هريرة: أَفْتِه فقد جاءتك مُعضِلة، ثم أفتياه بالوقوع (٣).

فالصحابة - رضي الله عنهم - ومقدَّمهم عمر بن الخطاب لما رأوا الناس قد استهانوا بأمر الطلاق وأرسلوا ما بأيديهم منه ولَبَسوا على أنفسهم ولم يتقوا الله في التطليق الذي شرعه لهم وأخذوا بالتشديد على أنفسهم ولم يقفوا على ما حُدَّ لهم= ألزموهم بما التزموه، وأمضَوا عليهم ما اختاروه لأنفسهم من التشديد الذي وسَّع الله عليهم ما شرعه لهم بخلافه. ولا ريبَ أن من فعل


(١) تقدم تخريجه.
(٢) رواه النسائي في «المجتبى» (٣٤٠١) و «السنن الكبرى» (٥٥٦٤)، وإسناده على شرط مسلم، قاله ابن القيم في «زاد المعاد» (٥/ ٢٢٠).
(٣) رواه مالك في «الموطأ» (٢/ ٥٧١)، ومن طريقه الشافعي في «مسنده» (١١٣). والأثر صححه الألباني في «صحيح أبي داود - الأم» (٦/ ٤٠٣).