وهذه وقائع متعددة لأشخاص متعددة في أزمان متعددة، والعادة توجب اشتهارها وظهورها بينهم، لا سيما وهؤلاء أعيان المفتين من الصحابة الذين كانت تُضبط أقوالهم، ويُنتَهى إلى (١) فتاويهم، والناس عنق واحد إليهم متلقُّون لفتاويهم، ومع هذا فلم يحفظ عن أحد منهم إلا الإنكار، ولا إباحة الحيل مع تباعد الأوقات وزوال أسباب السكوت. وإذا كان هذا قولهم في التحليل والعينة وهدية المقترض إلى المقرِض فماذا يقولون في التحيُّل لإسقاط حقوق المسلمين، بل لإسقاط حقوق رب العالمين، وإخراجِ الأبضاع والأموال عن مِلك أربابها، وتصحيحِ العقود الفاسدة والتلاعب بالدين؟ وقد صانهم الله سبحانه أن يروا في وقتهم من يفعل ذلك أو يفتي به، كما صانهم عن رؤية الجهمية والمعتزلة [٥٨/ب] والحلولية والاتحادية وأضرابهم، وإذا ثبت هذا عنهم فيما ذكرنا من الحيل فهو دليل على قولهم فيما هو أعظم منها.
وأما المقدمة الثانية فكلُّ من له معرفة بالآثار وأصول الفقه ومسائله ثم أنصفَ لم يشكَّ أن تقرير هذا الإجماع منهم على تحريم الحيل وإبطالها ومنافاتها للدين أقوى من تقرير إجماعهم على العمل بالقياس وغير ذلك مما يُدَّعى فيه إجماعهم، كدعوى إجماعهم على عدم وجوب غسل الجمعة، وعلى المنع من بيع أمهات الأولاد، وعلى الإلزام بالطلاق الثلاث بكلمة واحدة، وأمثال ذلك. فإذا وازنتَ بين هذا الإجماع وتلك الإجماعات